الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الثلاثاء 19 / مارس 05:02

أثر النكبة في الشعر الفلسطيني

بقلم: شاكر فريد حسن

شاكر فريد حسن
نُشر: 15/04/21 11:40,  حُتلن: 12:31

في العام 1948م حاقت النكبة بالوطن الفلسطيني، وأدت إلى تهجير وتشريد الآلاف من أبناء شعبنا العربي الفلسطيني، الذين تحولوا إلى لاجئين منفيين في الخيام السود.

وهنالك من واجه البنادق، وتحدى الخوف والاقتلاع، وأبى التشريد والتهجير، وبقي صامدًا وراسخًا ومتشبثًا بأرضه ووطنه وجذوره.

أدب المنافي واللجوء والشتات

ولا شك أن زلزال النكبة، والمأساة التي حلت بالشعب الفلسطيني قد هزت وجدان عشاق الكلمة والحرف، وأشعلت فيهم الحماس والعواطف وأججتها، وفجرّت فيهم ينابيع الشعر وأمدتهم بطاقة الإبداع. وانطلق الشعر الحماسي الخطابي الصاخب والغاضب المتجاوب مع الضمير والنبض الشعبي، وبدأ يتأسس في الخارج أدب عربي فلسطيني هو أدب المنافي واللجوء والشتات، ظهرت من خلاله الخيمة كرمز للهزيمة التي يجب تجاوزها. وتميز هذا الأدب بالشجن والأسى، وامتلأ بأمل وحلم العودة إلى الديار، ونلمس ذلك في قصيدة الشاعر هارون هاشم رشيد، التي تغنيها المطربة فيروز:

سنرجع يومًا إلى حيِّنا ونغرق في دافئات المنى

سنرجع أخبرني العندليب غداة التقينا على منحنى

أما زيتونة فلسطين، الشاعر الفلسطيني الخالد عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، الذي شرد من وطنه وحمل فلسطين في قلبه وروحه، وظلت مفاتيح بيته في حيفا في جيبه، وعاش شريدًا طريدًا، فيتساءل:

يا فلسطين! وكيف الملتقى هل أرى بعد النوى أقدس ترب

وهذا الشاعر نشأ مع النكبة وعاشها بكل جوارحه، وذاق طعم الغربة والتشرد والحرمان وقاسى الآلام والجراح الفلسطينية، وكتب بالدم والدمع وخلجات القلب قصائد ديوانه "المشرَّد" المكرسة للنكبة، والمشحونة بالغضب والثورة والحنين لتراب الوطن الغالي والمقدس. وبقي مؤمنًا بالعودة وبحتمية انتصار قضية شعبه، الذي قدم التضحيات الجسام وسجل ملاحم الصمود والبطولة، وهو يعلنها صرخة عالية ومدوية في وجه الغازي المغتصب:

قل للذين جنوا على وطني ما بيننا الأيام والحقب

من قبلكم مرّ الطغاة بنا هل تعثرت بهم؟لقد ذهبوا

عصفت بهم نار مقدسة فاذا بهم لجهنم حطب

شعر الحنين

ولم يعرف الأدب العربي الحديث شعرًا حنينيًّا مثل شعر الحنين الذي تفتقت به موهبة وقريحة "أبو سلمى". إنه حنين ممزوج بالأمل الثوري وتجاوز الواقع وانتصار الحلم الفلسطيني .. لنسمعه هاتفًا:

أختاه لا تبكي على ديارنا فالتربة السمراء في انتظارنا

نلثمها بالحلم حتى نلتــقي شفاهنا على تذكـارنا

لا تسألي أين الهوى ولم يـزل يمشي المجون على آثارنا

تحملنا الأشــواق كل ليـلة إلى ربانا والى أنهـارنا

وهنالك العديد من الشعراء الفلسطينيين، الذين صوروا المأساة الفلسطينية، وكتبوا عن اللاجئين وحياتهم القاسية في المخيمات، وعكسوا في أشعارهم آلام النكبة والتشرد والضياع والعذاب النفسي والشعور بالغربة والاغتراب، منهم خليل زقطان وهارون هاشم رشيد ويوسف الخطيب وحسن البحيري ومعين بسيسو وتوفيق الصايغ وجبرا إبراهيم جبرا، بالإضافة إلى شاعرتنا الكبيرة خنساء فلسطين الراحلة فدوى طوقان، التي تناولت التراجيديا الفلسطينية بقولها:

يا وطني مالك يحــنى على روحك معنى الموت معنى العدم

جرحك ما أعمق أغــواره كم يتنزى تحت ناب الألم

أين الألى استصرختهم ضارعًا تحسبهم ذراك والمعتصم؟

شعراء الداخل الفلسطيني

أما في الداخل الفلسطيني، ففي ظل الحصار الفلسطيني والحكم العسكري البغيض، الذي فرضته المؤسسة الصهيونية الحاكمة على الجماهير العربية الفلسطينية، التي تمسكت بالأرض والهوية والزيتونة والحقل والبيارة والبيدر، كان الشعر الشعبي هو السباق في نشر وتوجيه نداء المقاومة والكفاح، والتجاوب مع الحدث والواقع القهري الاضطهادي المرير، والتفاعل مع الأوضاع الجديدة والحركات العربية. وقد تحولت الأعراس في الجليل الفلسطيني إلى مظاهرات احتجاج وغضب ساطع ضد سياسة النهب والمصادرة والاقتلاع من الوطن. ولا يزال الشيوخ وكبار، ممن عاصروا تلك المرحلة، يتذكرون الأهازيج الشعبية، التي كان يرددها الزجالون الشعبيون الفلسطينيون، وأبرزها أهزوجة "نادى المنادي" التي تقول:

نادى المنادي في الجليل ارض العروبة للعرب

شاغورنا مالك مثيل وترابك أغلى من الذهب

وبوحدة رجال الشاغور أمر المصادرة انشطب

ديان أمرك مستحيل بالوحدة راح ينشطب

وكان الحادي ينشد أثناء السحجة التقليدية المعروفة لدى أهل الجليل والمثلث:

هبت النار والبارود غنى

تسلم لينا يا أبو خالد

يا حامي ظعنا

هبت النار من عكا للطيرة

تسلم يينا يا أبو خالد

يا حامي هالديرة

ولعبت الطلائع المثقفة الفلسطينية المتبصرة بالفكر التقدمي الثوري الإنساني دورًا بارزًا في ولادة أدب المقاومة والاحتجاج، وفي خضم الواقع، الذي أفرزته النكبة، ولدت القصائد والأشعار الحماسية ذات النبرة النارية، التي استلهمت المأساة وعكست الوجع الفلسطيني والأوضاع الجديدة. ويبدو أثر النكبة واضحًا في عشرات النصوص الشعرية والأعمال الإبداعية لشعرائنا الفلسطينيين الأوائل، من أمثال حنا أبو حنا وتوفيق زياد وحبيب قهوجي وعصام العباسي ومحمود الدسوقي وراشد حسين ومحمود درويش وسميح القاسم وشكيب جهشان وحنا إبراهيم وسالم جبران وسواهم. وكان هؤلاء الشعراء يشاركون في المهرجانات الشعرية والنشاطات والفعاليات الثقافية في مدن وقرى الجليل في أواسط الخمسينات، بهدف التفاعل مع الشعب وتعبئة الجماهير وتحريضها، وحثها على المشاركة في النضال ومقاومة مشاريع التهجير والاقتلاع وتذويب الشخصية الوطنية وتزوير الهوية الفلسطينية.

الشاعر الشهيد راشد حسين

وقد تفرد الشاعر الشهيد راشد حسين، الذي مات احتراقًا واختناقًا في غرفته بنيويورك، بين شعراء جيله بمجموعة من القصائد، التي يتحدث فيها بشمولية ودقة، عن حياة اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات والمنافي القسرية. وهو في هذه القصائد يكثر من استخدام التعابير والمفردات، التي تدل على هول السبي الفلسطيني الذي ولدته النكبة. ويظهر ذلك بجلاء ووضوح في قصائده "الخيمة الصفراء" وأزهار من جهنم" و"أنة لاجئ " و"إلى ابن عمي في الأردن" .. لنسمعه يقول:

في الخيام السود في الأغلال في ظل جهنم

سجنوا شعبي وأوصوه بألا يتكلم

هددوه بسياطه الجند بالموت المحتم

أو بقطع اللقمة النتنة، إن يومًا تألم

ومضوا عنه وقالوا عش سعيدًا في جهنم

أما في قصيدته "لاجئون" فنستشف الحزن النابع من أعماق، والإحساس العارم بالقهر نتيجة الإذلال والبطش والظلم الإنساني الذي لحق بشعبه، جراء طرده من وطنه ووقوعه تحت وكالة غوث اللاجئين، التي توزع المواد التموينية على اللاجئين الفلسطينيين:

وترى نجوم الليل مثل معسكرات اللاجئين

وكهيئة الغوث الحزينة يخطر القمر الحزين

بحولة من جبنة صفراء أو بعض الطحين

توفيق زياد

ويقول الشاعر المكافح والمقاتل، شاعر الجماهير الراحل توفيق زياد في قصيدته الشهيرة "هنا باقون" المليئة بالكدح والرفض والتشبث والالتحام بالتراب والثرى الفلسطيني:

هنا على صدوركم باقون

ننظف الصحون في الحانات

ونملأ الكؤوس للسادات

نجوع نتحدى ننشد الأشعار

ونملأ الشوارع الغضاب بالمظاهرات

ونملأ السجون كبرياء

ونصنع الأطفال جيلًا ناقمًا وراء جيل

كأننا عشرون مستحيل

في اللد والرملة والجليل

شعر الغربة

وغربة الإنسان الفلسطيني وبعده عن وطنه، كان أحد الموضوعات الرئيسية، التي طرق أبوابها الشعراء والمبدعون الفلسطينيون في الداخل ومناطق الشتات القسرية. وقد تغنوا بها وصاغوا أشعارًا تتراوح بين رنة الحزن والأسى والحنين والشوق المستعر في أفئدة المغتربين والمشردين، ظمأً للعودة ولوعة وتوقًا للقاء الأحبة، واستحضارًا للذكريات الجميلة في الوطن تحت أفياء وظلال الزيتون والكروم الجليلية.

في الإجمال يمكن القول إن النكبة أو التراجيديا الفلسطينية كانت وستظل نبعًا لا يجف، ومعينًا لا ينضب في الشعر الفلسطيني الثوري الملتزم. وجعلت من هذا الشعر شعرًا عروبيًّا وقوميًّا وطبقيًّا ووطنيًّا وثوريًّا ومقاومًا ومنحازًا للفقراء وأبناء الشوارع والأرصفة والمخيم، ورافضًا لواقع التشرد والبؤس والشقاء والعذاب الإنساني الفلسطيني. ورغم التفجع والشعور باليأس والهزيمة، الذي خيم على هذا الشعر في بداياته إلا انه أدى بالتالي إلى خلق وتهيئة جو اعتملت فيه الثورة والمقاومة والاحتجاج والرفض في النفوس المعذبة، كما اشتد نبض شعرائنا وإيمانهم بالوعد الذي أعطته المقاومة، وأضاءت كلماتهم المقاتلة ليل واقعنا المرير، وزرعوا الأماني بلسمًا على جرحنا ونكبتنا، ونشر الأمل على جهات الروح، ونثر العبير على الجرح الفلسطيني الذي لم يندمل حتى الآن.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com   

مقالات متعلقة