الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 26 / أبريل 18:02

الحلقة التاسعة من سلسلة بليغ النغم

بقلم: سيمون عيلوطي

سيمون عيلوطي
نُشر: 16/03/21 23:56,  حُتلن: 18:54

بـليــــــغ النَّــغـــــــم: قراءة جديدة في تجربة بليغ حمدي الفنيَّة والانسانيَّة (9) 

حاول بليغ جاهدًا أن يتعالى على جراحه، فأخذ يشغل نفسه بالعمل الموسيقيّ، والتَّلحين. لقد لحَّن في تلك الفترة الكثير من الأغاني، وموسيقى الأفلام، والمسلسلات. يقول النَّاقد الفنيّ طارق الشِّناوي في لقاء صحافيّ: "استطاع بليغ حمدي بعبقرَّتيه الخالقة أن يحافظ على المستوى الرَّفيع المطلوب بالفنِّ والموسيقى، رغم غزارة إنتاجه"، وكان كلَّما غلبه الشَّوق لحبيبته ورده، يُضمِّن بعض ألحان أغنياته برسائل يُعبِّر فيها عن حبه الجَّامح لها. إحدى هذه الرَّسائل كانت أغنية "بعيد عند" التي صدحت بها أم كلثوم من ألحانه، وكلمات مأمون الشِّناوي في العام 1965.
أم كلثوم لاحظت أنَّ هذه الأغنية "بعيد عنَّك" تندرج ضمن رسائله لوردة، فقالت له: "هُوَّ انتا يا واد عاملني كوبري للبنت اللي بتحبها؟"، وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، فإنَّ أغنية "بعيد عنَّك" كانت مُقرَّرة لـنجاة الصَّغيرة، وقد أجرت عليها عدَّة تمرينات، ولكن بمجرَّد أن تَبادَر إلى مسامعها في اللحظة الأخيرة، أن الأغنية تحتوي على رسالة لوردة، رفضتها، ولمَّا عُرِضَت على السيِّدة ام كلثوم، رحَّبت بها بدون تردُّد، وكانت من الأغنيات الجميلة التي قدَّمتها كوكب الشَّرق. عندما سمعتها نجاة ندمت ندمًا شديدًا على خسارتها أغنية كانت ستضيف إلى مجدها، لو غنَّتها، رائعة خالدة.
وفي نفس السِّياق، فقد شاع بين أهل الفنِّ أنَّ أغنية "أنساك" التي تغنيها أم كلثوم من ألحان بليغ حمدي، وكلمات مأمون الشِّناوي، سنة 1962، كانت أيضًا عبارة عن رسالة حب من بليغ إلى وردة.
بالنسبة لبليغ، فقد كانت هذه الرسائل بمثابة قرص دواء لداء استقرَّ عميقًا في النَّفس، لا شفاء منه إلَّا بحبيبة افتراضيَّة تعرف كيف تُضمِّد جراح شغافه، وتسكن كيانه، ولتحقيق هكذا معضلة، كان لا بدَّ لهذه الحبيبة من مصادقة وردة لتساعدها على فعل ذلك. هذه الفترة من حياة بليغ اتَّسمت بالتَّيه، وفقدان البوصلة، فأصبح يفرط في العمل والسَّهر، وربمَّا الاستهتار بالمواعيد، والإكثار من السًّفر لهدف معين، أو بغير هدف. ونتيجة لهذه الحالة التي كان يمرُّ بها، والفراغ العاطفي الذي حين أراد أن يملأه، وقع في غرام أكثر من امرأة، فذهب إلى بيت الراقصة سامية جمال، طالبًا يدها، معلنًا عن حبِّه لها، فقالت له: "حبِّ إيه اللي انتا جايِّ تقول عليه"، استوقفه هذه الجُّملة الموزونة شعرًا، فبنى عليها بمساعدة صديقه الشَّاعر عبد الوهَّاب محمَّد أغنية "حبِّ إيه اللي انتا جايِّ تقول عليه/ منتا عارف قبل معنى الحب إيه/ لمَّا تتكلِّم عليه/ حبِّ إيه إيه". فكانت أول أغنية تصدح بها أم كلثوم من ألحانه. ثم كثرت من حوله الشائعات، حتى نشرت الصُّحف اللبنانيَّة خبرًا مفاده أنَّ الموسيقار الكبير بليغ حمدي عقد قرانه على المطربة صباح التي بدورها كشفت أنَّ خبر زواجها من بليغ حمدي عار عن الصِّحة تمامًا. أمَّا هو فقد بيَّن أنه حين عرض عليها الزَّواج، إنَّما قصد مداعبتها ليس إلَّا، موضِّحًا أنَّ علاقته بها لا تتعدَّى أكثر من حدود العمل المشترك بينهما. لكن بعض الصحف استمرَّت بنشر الشَّائعات حوله، مدَّعية أنَّ هناك رابط حب يربط بين الملحَّن بليغ حمدي والمطربة شادية. المطَّلعون على حقائق الأمور من أصدقاء الطَّرفين، نفوا هذه الأخبار الملفقة التي تتناقلها بعض الصُّحف في هذا الشَّأن، ما جعل دلوعة الشَّاشة تخرج عن صمتها، لتوضِّح: "بليغ ابن حتَّتي في حي شبرا بالقاهرة، نعرف بعضينا من نحنا صغيَّرين أوي"، وقالت: "لو كان في حب بينا، مكنَّاش استنينا لغاية دلوقتي عشان نعلن حبِّنا ... بليغ رجَّعني للغناء تاني بعد ما كنت اعتزلت الغنى، وعملي أجمل الألحان، وهيَّ ده كل الحكاية. أمَّا بخصوص التَّلفيقة التي روَّجت عن علاقة حب متبادل بينه وبين الرًّاقصة نجوى فؤاد، فقد قالت نجوى: "أنا بعشق ألحان بليغ، بس أنا احساسي بيه مش أكثر من صديق غزير على قلبي أوي".
أرى استنادًا لما تقدَّم أنَّ أغنية "حبيبتي من تكون"، شعر: خالد بن سعود، تخاطب ملحِّنها، بليغ حمدي، لكثرة حبيباته، كما يزعم البعض، قبل أن يتساءلوا: عن حبيبة منشدها، عبد الحليم حافظ، ومن تراها تكون؟
حبيبتي من تكون: حليم

الشَّائعات التي أحاطت ببليغ، وحياة الفوضى العارمة التي صار يعيشها بعد فراق وردة، بحيث أصبح نهاره ليله، وليله نهاره، وعدم الالتزام بالمواعيد، والإِسْراف فوق ما ينبغي، والمبالغة في السهرات والحفلات...إلخ...إلخ.... كل هذه الأمور جعلت بعض الكتَّاب والصَّحافيِّين يصفونه بالبوهيميَّة. هذا الوصف فيه الكثير من التَّجني والمبالغة، خاصَّة أنَّه يبتعد كل البعد عن المفهوم العلميّ للبوهيميَّة التي تقود صاحبها عادة إلى الانفصال عن عمله، وواقع مجتمعه، و، وعدم الالتزام بجميع واجباته تجاه نفسه، أو تجاه غيره بدون تمييز. والأهم من ذلك فإنَّ البهيمي في أغلب حالاته لم يُقِم وزنًا للعرف والتقاليد والأخلاق عامة.
غير أنَّ بليغ لم يكن كذلك، بل كان يقوم بعمله الموسيقى بشكل متقن تمامًا، وكان مكتشفًا للعديد من الأصوات الغنائيَّة، منهم: عفاف راضي، عزيزه جلال، علي الحجار، سميرة سعيد، وغيرهم. وقد عُرِف بالطيبة، والتَّواضع، والتزامه المطلق بأصدقائه، وأهله، ووطنه. لم يبخل يومًا على صديق ما بالدَّعم المعنويّ والماديّ إذا رآه محتاجًا. كما أنه لم يتقاضَ أجرًا لقاء أعماله الموسيقيَّة الوطنيَّة أو للأطفال.
يتبع

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com   

مقالات متعلقة