الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الثلاثاء 19 / مارس 04:02

هندسة الظلم: هذا ما تفعله الدولة للبلدات العربية!/ بقلم: المحامي د. قيس يوسف ناصر

د. قيس يوسف
نُشر: 30/09/20 16:36,  حُتلن: 20:13

المحامي د. قيس يوسف ناصر  في مقاله:

يجب على الدولة أن تناقش بأمانة وشجاعة عدم العدالة والمساواة في وضع البلدات العربية مقارنة بالبلدات اليهودية من جهة الارض والمسكن والعمران والتطور وجودة الحياة

نشرت وزارة القضاء مؤخرًا تقريرًا آخر حول العوائق التي تمنع التنظيم والبناء في البلدات العربية في إسرائيل. يصوّر التقرير نفسه انه يطرح الحلول لأزمة السكن والعمران في البلدات العربية، ولكنه في نظري ليس سوى تقرير آخر من قبل الدولة يتجنّب الاهتمام بالمشكلة الحقيقية: الظلم التخطيطي والاقتصادي والاجتماعي تجاه البلدات العربية والذي صممته الدولة عبر عشرات السنين حتى جعلت البلدات العربية بلدات متخلفة عن ركب العمران والحداثة والتطور وبلدات فقيرة ومغلقة ومنعزلة. 

يركّز التقرير على تخطيط ما بقي من الأراضي الخاصة في البلدات العربية، ولكنه يتعامى عن الفجوات الكبيرة التي خلقتها الدولة بشكل مدروس على مدى سنوات طويلة بين المجتمع العربي واليهوديّ في البلاد من جهة الارض والتخطيط والاقتصاد والحياة الاجتماعية. في رأيي ان تخطيط البلدات العربية دون معالجة هذه الفجوات، ليس سوى هندسة وتصميم للتمييز والاضطهاد والظلم.

يتناول التقرير تخطيط الأراضي في البلدات العربية، متجاهلاً أن مساحة البلدات العربية لا تزيد عن 2.5٪ من مساحة الدولة. قبل قيام دولة اسرائيل، ملك العرب أكثر من نصف الأراضي في البلاد، لكن الدولة جرّدت العرب من أراضيهم بالقوة، بالمصادرات الواسعة العشوائية وبمشاريع الاحراش وبالاعلان عن مجموعة كبيرة من الاملاك الخاصة "أملاك غائبين" وبغيرها من الطرق الظالمة التي سوغها "القانون"- قانون الاغلبية.

بالاضافة لذلك، ازداد عدد السكان العرب في اسرائيل سبع مرّات منذ قيام الدولة، وبالرغم من ذلك فان المناطق التي اضيفت لتوسيع البلدات العربية ضئيلة جدا ولم تنشأ حتى اليوم اي بلدة عربية جديدة، مع ان الدولة أقامت مئات البلدات والتجمعات اليهودية ووسعت نطاق المجالس الإقليمية اليهودية، على حساب البلدات العربية.

تعتقد الدولة حسب التقرير الاخير أن حل ازمة السكن والعمران في البلدات العربية يكمن في تحريك المخططات الهيكلية لتخصيص المزيد من الاراضي للبناء. هذا اعتقاد خاطىء وغير واقعيّ. ان نجاح بلدة ما لا يقاس فقط بعدد الوحدات السكنية أو بعدد المخططات الهيكلية فيها، بل يقاس بمعيار أوسع وأعمق، ألا وهو "جودة الحياة" (Quality of Life). هذا هو المقياس المقبول والمعتمد في العالم لفحص نجاح بلدة أو حيّ او منطقة. تمتحن جودة الحياة بوجود مكوّنات عمرانيّة واجتماعية اساسيّة مثل السكن المتاح والمتنوع واماكن العمل والاقتصاد وووسائل النقل والبنية التحتية والأمن والتعليم والرفاهية والثقافة. وان طبّقنا هذا المعيار، معيار جودة الحياة، على البلدات العربية فانها ستحصل وللاسف على درجة "راسب" فهي تفتقد بكل بساطة لجودة حياة.

تعاني معظم البلدات العربية نقصا كبيرا في الاماكن المتاحة للسكن، مما يؤدي إلى ظاهرة البناء دون ترخيص، والدولة تعالج هذه الظاهرة بشكل عنيف وشرس من خلال هدم البيوت بشكل دائم وبشكل شهري واحيانا اسبوعيّ. كما ان البلدات العربية تفتقر الى مناطق كافية للعمل والصناعة والتجارة. أصبحت هذه البلدات أماكن للنوم فحسب حين يغادر المواطنون العرب بلداتهم في الصباح للعمل في البلدات اليهودية ويعودون اليها في المساء للنوم، دون ان تؤمن هذه البلدات قوتا وعيشا رغيدا لهم! وبسبب هذا الظاهرة وعوامل اخرى لا تتحلى البلدات العربية بقوة اقتصادية ذاتية، بل معظمها فقير ومحتاج ويعتمد اقتصادها بشكل شبه كامل على معونات الدولة. تشبه البلدات العربية شخصا مريضا يحتاج بين الحين والاخر لجهاز تنفس وانعاش الا ان الدولة، على عكس الطبيب الأمين، لا تسرع في اسعاف وانعاش البلدات العربية ولا تعطيها "الاكسجين" الذي تحتاجه الا عندما تقترب من الاحتضار!

وفي معظم البلدات العربية لا توجد حتى حديقة عامة صغيرة وأرصفة ومسارات للتنزّه وأماكن ترفيه. عائلات عربية تسافر بأكملها إلى البلدات اليهودية القريبة حتى يلعب الأطفال أو حتى يمارس الأزواج الرياضة. وكأن البلدات العربية سجن ٌيتوق فيه الاسرى، اي السكان، الى الساعة التي يخرجون فيها من الاقفاص الحديدية للتنزه والترويح عن النفس!

حتى الشعور بالأمن الشخصي غائب لدى معظم المواطنين العرب. جرائم القتل والنهب في البلدات العربية تحدث في ضوء النهار دون مانع او رادع، وهذه الظاهرة آخذة بالتزايد. يعيش السكان وحتى رؤساء السلطات في ذعر ورعب دائمين،. في هذه المسألة الحساسّة ايضا لا تبالي الدولة كثيرا واهمالها المقصود قبيح ومعيب.
ان الوضع الحالي في البلدات العربية يدفع الشباب العرب للهجرة إلى البلدات اليهودية من أجل الحصول على حياة رغيدة لا تمنحها البلدات العربية لهم. هذه الهجرة أيضا تضعف البلدات العربية والمجتمع العربي ككل. مع ذلك لا تزال هذه الظاهرة محدودة نسبيًا لأن نصف العرب في البلاد يعيشون تحت خط الفقر ولا تستطيع كل العائلات العربية شراء أو استئجار شقق في التجمعات اليهودية. هذه الظاهرة محدودة ايضا لانه حسب الدراسات المنشورة حوالي 900 بلدة يهودية في البلاد مغلقة امام العرب، ولا يمكن للعرب العيش فيها لسبب وحيد: ليسوا يهودا. هذا حقيقة اخرى يتجاوزها تقرير وزارة القضاء الاخير ولا يتعامل معها ولا ينتقدها.

علينا ان لا ننسى ايضا أن التخطيط قياسات وهندسة فحسب بل هو أيضا قرار سياسيّ يخص توزيع الموارد. في هذا المضمار علينا ان نعي ان الضعف السياسي للمجتمع العربي، كأقلية قومية في دولة يهودية، في التأثير على القرارات "القومية" الخاصة بتخطيط البلاد، هو عامل مهم. إن نسبة المهنيين العرب، وكذلك نسبة الأعضاء العرب، في مؤسسات التخطيط القطرية واللوائية، تلك التي ترسم وتحدد سياسات التخطيط في البلاد، ضئيلة للغاية وفي بعض الأحيان تقارب الصفر. لذلك لم يكن العرب يوما شركاء في المخططات الهيكلية "القومية" والقطرية التي حاصرت البلدات العربية وعرقلت توسعها، بل هي مخططات فُرضت على البلدات العربية "من الاعلى" وبالقوة. كما ان توسيع نفوذ سلطة محلية بموجب القانون لا يحصل الا بقرار من وزير الداخلية. وبما أن العرب لا يملكون القوة السياسية والاقتصادية للتأثير على قرارات وزير الداخلية في هذا المسألة الحساسة، فمن غير المستهجن ان الغالبية العظمى من السلطات التي وسّع وزراء الداخلية المتعاقبون أراضيها ونفوذها كانت يهودية.

اتت الساعة ايضا ان ندحض ادعاء الدولة والادعاء السائد في المجتمع اليهودي عامة أن المجتمع العربي مجتمع تقليدي ومحافظ ولا يتعاون مع التخطيط والتطور. هذه دعاية اكثر مما تكون ادعاءا مهنيا وهي تطلق من قبل الدولة دائما لتجعل الضحية- المجتمع العربي- مذنباً ومتهما بما بلغته البلدات العربية. وردا على هذا الادعاء اقول إن المجتمع العربي ليس متشابها بشكل كامل بكل اطيافه وفئاته، كما ان العديد من الفئات في المجتمع العربي تعيش تغيرا كبيرًا، في العديد من مجالات الحياة، وانتقلت نسبيّا من التقليدية والحياة القروية إلى التقدم والحداثة. يتجسد هذا التغيير في التخلي عن الشكل التقليدي للسكن بجانب الأسرة، وتبني نمط السكن في بيوت مشتركة وهو نمط الحياة الغربي، وفي البناء المرتفع، وفي ازدياد نسبة خروج النساء للعمل وللمشاركة في الحياة العامة، وفي طريقة الحياة وفي امور عديدة اخرى. لذلك، فإن تعامل الدولة مع المجتمع العربي على انه مجتمع مختلف، "مجتمع آخر"، إلى درجة تصميم إجراءات تخطيطية خاصة به وحده، هو تعامل غير عادل وغير لائق، وهو يهدف إلى إبقاء المجتمع العربي مغلقًا ومنفصلًا عن الحياة العامة في البلاد. هذه السياسة، سياسة "المنفصل ولكن المتساوي" (Separate but Equal) تم شجبها ورفضها في البلدان النيّرة منذ عشرات السنين لانها تعزز التمييز والفصل العنصري.

خلاصة القول: يجب على الدولة أن تناقش بأمانة وشجاعة عدم العدالة والمساواة في وضع البلدات العربية مقارنة بالبلدات اليهودية من جهة الارض والمسكن والعمران والتطور وجودة الحياة. لن يتحسن وضع البلدات العربية على الإطلاق، إذا لم تضع الدولة خطة شاملة وحقيقية لتصحيح هذا الظلم سريعا. ان التخطيط في ظل عدم المساواة بين فئات المجتمع المتساوية هو هندسة للظلم وتجميلٌ له، بل ان التخطيط المبني على الظلم هو الظلم عينه. البناء الذي يبنى على الرمل يسقط، هذا ما يحدث لكل تخطيط مبني على الظلم، وهذا ما سيحدث لتقرير وزارة القضاء الاخير.

*الكاتب محام ومحاضر وباحث في مجال الارض والمسكن وحقوق الانسان.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com   

مقالات متعلقة