الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 26 / أبريل 16:02

لماذا تتجاهل بلدية حيفا بستان الخياط وتمتنع عن صيانته؟ - بقلم: معروف مراد - طمرة

معروف مراد -
نُشر: 28/08/20 21:52,  حُتلن: 21:55


منذ اواسط القرن العشرين، اهتمت الكثير من حكومات العالم ومنظماته الانسانية بالمرافق السياحية ذات الطابع الاثري، الطبيعي، الثقافي الديني وغيرهم والتي تحظى بأهمية فوق عادية لدى سكان المكان والعالم. صيانة هذه الاماكن وتطويرها اصبح مطلب جماهيري لا يمكن تجاهله، نظرا الى الاهمية التي يوليها المواطنين - اينما كانوا - لهذه الاماكن.
المردود من الارث الثقافي، التراثي والطبيعي للاماكن السياحية يتضمن اضافة للأهمية المعنوية، موردا اقتصاديا هاما وضروري للمكان والسكان، وعلى الحكومات والسلطات المختصة اخذ هذا الاعتبار بالحسبان في مخططاتها للنهوض بالأمة.
نظرة عامة
تعتبر السياحة من أهم المصادر التي تغذي الاقتصاد المتطور بالواردات التي تدر على خزينة المالك للمكان - اذا كان عاماً او خاصاً الكثير مما يسمى تقليديا بالعملة الصعبة ومحليا بالمدخولات التي تمثل ضمانة للمداولة الاقتصادية السليمة في اطار السياسة الاقتصادية للدولة. هذه المدخولات تعد عمادة الاقتصاد المتطور والتي ثبتت فاعليتها في حالات كثيرة للنهوض الاقتصادي في الدول المتقدمة خاصة وفي الكثير من دول العالم الثالث التي يعتمد اقتصادها – الى حدٍ كبير- على السياحة الوافدة كمصر مثلا.

هناك دور للسياحة ليس فقط في الحفاظ على التراث الحضري وإنما كذلك في استمرار الثقافة الحضرية ودعم التفاهم بين الثقافات. لذلك، ولربما نتفق في ان السياحة مصدرا محتملا لصناعة نظيفة ومصدرا كبيرا للدخل والتوظيف، وعلى الدولة ان تحافظ عليها بل وتطورها، مثل مواقع ذات اهمية دينية، ثقافية، عمرانية (مباني ومنشآت)، فنية او علمية، والاعلان عن مواقع محددة كمواقع طبيعية، تراثية او ثقافية، هو بمثابة اطلاع الجمهور والسلطات المختصة بان هذه المواقع محمية بسلطة القانون وهنالك قيود على التعامل معها، كحمايتها من الايدي التي قد تعبث بها لمصلحة فردية او لمجموعة هدف، ومن ناحية اخرى الحكومة – وضمن مسؤوليتها كحكومة - تتحمل مسؤولية الحفاظ على هذه الاماكن وصيانتها بالشكل الذي يمكنها من الاستمرار والصمود في وجه المتغيرات الطبيعية والسلوكية لبني البشر من ناحية، وترميمها في فترات متقاربة لجعلها تجذب اليها الزوار بكافة اطيافهم وتوجهاتهم. هذا في سياق المسؤولية الفردية والجماعية عن هذه الاماكن.
هنالك الكثير من المواقع الطبيعية، التراثية والثقافية في الدولة والتي تحظى باهتمام بالغ من قبل الجمهور والسلطة على حدٍ سواء، وهنالك مواقع تحظى باهتمام السلطة مع انها لا تجذب الكثير من الزوار، وفي نفس الوقت هنالك مواقع تحظى باهتمام كبير من قبل المواطنين بتعدديتهم وتعدادهم، الا ان الموقع لا يحظى بالاهتمام الكافي من قبل السلطة، مما يثير فضول الباحث او الانسان العادي للبحث في هذه الاسباب. بستان الخياط هو المثال الصارخ للحالة الاخيرة.

بني البستان عام 1936 جنوب حيفا بجانب قرية الطيرة العربية (طيرة الكرمل اليوم) على يد عزيز الخياط، ابن عائلة الخياط المتمكنة اقتصادياً والمشهورة تاريخياً والتي ورد ذكرها في روايات الآباء والاجداد الذين واكبو تلك الفترة الزمنية. المكان بني كمكان استجمام للعائلة التي سكنت في حيفا ابان الانتداب البريطاني في فلسطين. البستان القائم على 6500 متر مربع، مبني بأسلوب وبتصميم مستوحى من الحضارة العربية الاسلامية، والذي يشمل شلالات، نوافير، قنوات وبرك مائية منتشرة ومتصلة في ما بينها في جنبات البستان. بعد وفاة بانيه عزيز الخياط عام 1943 انتقلت ملكية البستان لابنته لوسي والتي بدورها نقلت ملكيته الى الكنيسة الأرثوذكسية في حيفا. بعد وفاة لوسي عام 1972 تم بيع البستان لبلدية حيفا التي شملته ضمن الاماكن المحمية في منطقة نفوذها. في العام 1998 قررت بلدية حيفا في جلسة عادية ترميم البستان الا ان هذا القرار بقي مداداً على صحف ولم ينفذ حتى يومنا هذا. ومع ان بستان الخياط يعتبر معلم شمولي بأهميته التاريخية، الطبيعية والحضارية، ومع ذلك فانه لا يحظى بالاهتمام المطلوب من قبل المؤسسات المختصة، ذلك بالرغم من التوجهات المختلفة من قبل جمعيات وافراد من كافة اطياف المجتمع بان تأخذ المؤسسات دورها الطبيعي في ترميم وصيانة المكان.
في هذا السياق، حاولت تقصي الحقائق من خلال ما كُتب عن المكان، استيفاء المعلومات الاضافية واجراء المقابلات مع اصحاب الشأن، علني افلح في كشف الحقيقة وراء التغييب المتعمد من قبل بلدية حيفا لترميم المكان بل وتطويره وارشاد الجمهور بمكان تواجده، والتكاتف مع الناشطين لرفع الغبن وسياسة التمييز الواقعة بحق هذا المكان.
مع مرور الوقت وفي غياب اليد الراعية للمكان، اخذت حالة البستان بالتردي. وفي العام 2008 تشكل الائتلاف من اجل البستان للمبادرة في ترميم المكان وصيانته بشكل مستمر. الائتلاف شمل بعضويته: مجلس صيانة المواقع الاثرية، شاتيل، سلطة حماية الطبيعة، جمعية دعم الثقافة في حيفا، مركز الابحاث الاثرية والعمرانية في معهد الهندسة التطبيقية في التخنيون وجمهور من المهندسين والمؤرخين والفنانين. الائتلاف يقوم بتنظيم اعمال تطوعية في المكان تقتصر على اعمال التنظيف والصيانة الخفيفة ضمن طاقات المشتركين بهدف صمود المكان وبقائه ليس الا. اضافة لذلك يقوم الائتلاف بتنظيم لقاءات، محاضرات ومناسبات تحت رعاية كرستينا خياط ابنة سليم حفيد الخياط.
في سياق بحثي حاولت استيضاح المعضلتين التاليتين:
• لماذا ترفض بلدية حيفا ترميم وصيانة بستان الخياط مع انه معلم سياحي تتمنى أي بلدية ان يكون مماثلاً له في منطقة نفوذها. هل تخفي بلدية حيفا عن الجمهور معلومات تحرجها او تكشف زيف حجتها.
• هل بمقدور المجتمع المدني والجمعيات المعنية بالأمر الضغط على اصحاب القرار والتأثير عليهم، هل يملكون ادوات كافية للعمل على اجبار السلطات المسؤولة بأخذ مسؤوليتها على المكان.
بعد مراجعة تاريخ المكان والكتابات القليلة نسبيا عنه ، تبدو الفرضية بان المكان اهمل عن قصد صادقة الى حدٍ كبير. بلدية حيفا التي اشترت المكان بالمال تعتبره ملكية فقط ولا تنظر اليه بمنظار ثقافي تربوي ذات مكانة خاصة لدى الجمهور. تبدو جليا هذه الفرضية من تصرفات بلدية حيفا والاستمرار في سياسة التغييب الثقافي من اذهان الجمهور عامة ومواطنو حيفا والمنطقة بشكل خاص.
اِطِلاعي الاول على المكان كان ضمن جولة سياحية في وادي سياح الذي ينتهي مساره في بستان الخياط، كان ذلك قبل بضع سنوات، كنت حينها مركز للرحلات في مدرستي وضمن التحضير للرحلات المرتقبة، ابحث عن المعلومات المتوفرة عن أي مسار او معلَم سياحي وازوره لتحضير وحدة تعليمية وتقديمها للطلاب كهدف تعليمي من أي رحلة.
خلال بحثي عن معلومات نظرية عن وادي سياح في موقع سلطة حماية الطبيعة عثرت على المعلومات النظرية المطلوبة عن المكان، والتي اختتمت في المعلومة: "في نهاية مسار وادي سياح يوجد بركة ماء في مكان يسمى بستان الخياط" هذه المعلومة الجديدة بالنسبة لي اثارت فضولي لزيارة المكان والتعرف عليه.
في زيارتي للمكان تحققت من غالبية المعلومات المتوفرة لدي عن مكونات الموقع، وعندما انتهى بي المسار وجدتُ بستانا غاية في الجمال سرعان ما شدني اليه الاحساس بالأعجاب بل والانتماء لحضارة الاسلاف.
تجولت في المكان باحثا كما هي العادة في أي مكان سياحي عن يافطات ووسائل ايضاح تشرح للزائر عن المكان، الا انه سرعان ما تمالكني الاحساس بالخذل لأنني ببساطة لم اجد الا معلومة واحدة كتبت على احدى جدران البستان وتوضح التجاهل والغبن الواقع بحق المكان (يبدو ان من كتبها هو من زوار المكان معبرا عن استيائه من الاهمال المتعمد للمكان) هذا الحال اثار فضولي للبحث في الاسباب الكامنة وراء سياسة التجهيل المتعمدة من السلطات المختصة وبلدية حيفا لهذا المكان ورفضهم ترميمه ورعايته.
بلدية حيفا تفيد انها لم تقرر بعد مصير البستان - ما اذا كانت ستنفذ قرار اتخذ سابقا بترميم المكان ام لا- الناطق بلسان البلدية اشار الى ان البلدية قامت بنصب يافطات تحذر من الاماكن الخطرة في المكان مع العلم ان الزوار يرتادون المكان يوميا دون أي رقابة او تنظيم من قبل البلدية.
رد الناطق بلسان بلدية حيفا اصابني بالذهول، كيف لمؤسسة منتخبة ان تتخذ موقف يتجاهل مورد سياحي ذات اهمية بالغة كبستان الخياط وعدم استغلاله كموقع لجذب السياح والمتنزهين وبذلك يكونوا قد لبوا المطالب العادلة لجمهور الناخبين على الاقل، ويذكرني بمقال الكاتبة والباحثة استر زاندبرغ "غبار، رمان وحجّارة" الذي ورد في الملحق الثقافي لصحيفة هآرتس، ان الخطر المحدق في المكان هو في محاولات الترميم الفاشلة. تركه وشانه افضل من محاولات العبث فيه، لان محاولات ترميم غير مدروسة قد تفسد المكان وسحره.
من خلال بحثي واستقصائي للموضوع طفى على السطح عدة تحديات منها المتوقع ومنها الذي ظهر خلال البحث، اذكر منها:
أ‌. حبنا للمكان والرغبة في العمل على ترميم البستان قد يؤدي لمواجهة قانونية مقابل بلدية حيفا – المالكة للمكان – الامر الذي قد يؤدي بالبلدية الى اتخاذ قرار غير مرغوب به جماهيريا، كإغلاق المكان مثلا او هدم الاجزاء الآيلة للسقوط بدل تدعيمها وصيانتها.

ب‌. التحدي الثاني يتمثل في تصنيف القضية، ما اذا كانت تحمل الطابع المدني او السياسي. هذا التصنيف يحدد الجهات المعنية بالنضال من اجل المكان. بمعنى، اذا كان سياسيا، بالتالي النضال سيقتصر على الجماهير العربية، اما اذا اعتبرت القضية مدنية فذلك قد يسهم في اتساع قاعدة النضال.
بالمقابل، لا يخلى الامر من نقاط القوة – القليلة نسبيا – الا انها قوية ويمكن تسجيلها لصالح المطالبين بإنقاذ المكان واخذ المسؤولية عليه، منها:
أ‌. القوانين والمواثيق العالمية تحض الحكومات على اخذ دورها بالمسؤولية عن الاماكن الطبيعية، التراثية، الدينية، الثقافية وغيرها من القيم التي تهم الانسان. هذه النقطة بإمكان الائتلاف من اجل انقاذ البستان استغلالها والضغط على الحكومة وبلدية حيفا بتغيير سياساتهم تجاه المكان.
ب‌. قاعدة النضال واسعة جماهيريا كونها تشمل مؤسسات، جمعيات وايضا شخصيات اجتماعية ومهنية تمثل اطياف متعددة في المجتمع، وهذا بحد ذاته مصدر قوة لا يستهان بها.
اجمالا اقول ان صيانة الاماكن الطبيعية، التراثية والثقافية ينبع من اهمية الموقع جغرافيا، تاريخيا، دينيا، ثقافيا وفنيا، وصولا الى الموارد الاقتصادية التي تعود بالفائدة المادية لترميم المكان والاستفادة من المردود الاقتصادي للمصالح التجارية القريبة منه. صيانة هذه الاماكن هي مطلب ملح من قبل المواطنين الذين تربطهم مشاعر الخصوصية للمكان وبالتالي على السلطة المنتخبة من قبل الشعب ومن اجل الشعب، ان تلبي متطلبات المواطنين المختلفة واحتياجاتهم المادية والمعنوية. بستان عزيز الخياط يمثل معلما طبيعيا، تاريخيا، هندسيا، حضاريا وثقافياً بامتياز.
حق الجمهور في الاطلاع على المعلومات والاسباب التي تقف عقبة امام ترميم البستان وانهاء سياسة التنكر، هو مطلب جماهيري عادل في النظام الديمقراطي. الحق في الانتظام في مجموعات هدف هو حق مشروع للمواطنين، على بلدية حيفا والسلطات المختصة ان تتجاوب مع الائتلاف من اجل بستان الخياط بل والتعاون معهم وشرعنه نشاطهم في هذا المضمار، آملين ان تصل هذه الصرخة المعبرة عن آراء الكثير من المواطنين بكافة توجهاتهم الى السلطات المختصة لإصلاح الغبن الواقع بحق هذا المكان.
كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته – الامر ينطبق على الانسان والمكان وعلى الشجر والحجر.

مقالات متعلقة