الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 04 / مايو 06:02

البحر في الداخل - رانية حداد

العرب - الناصرة
نُشر: 26/10/08 20:40

استرخ... انت تشعر بالهدوء اكثر فاكثر
والان تخيل شاشة سينما تنفتح امامك
عليها تخيل مكانك المفضل
ركز على تنفسك
لتسمح لجسمك كله ان يسترخي ويشعر بالسلام
تابع التنفس والاسترخاء
تنشق وازفر...
تنشق وازفر...(صورة البحر مزج على الشاشة)
والان وصلت الى هناك
انتبه الى التفاصيل
الالوان... الملمس... الضوء
الحرارة اشعر بالحرارة
دع هذا المشهد الهادئ ينفض من امامك
الشعور بالسلام لا متناهي
بهذا الصوت المنساب بهدوء من خارج الكادر داعيا الى التأمل، واطلاق الحواس لاستشعار الطبيعة، يبدأ المشهد الافتتاحي من الفيلم الاسباني (البحر في الداخل)  انتاج 2004، للمخرج (أليخاندرو امينابار)، حيث ما نسمعه هو صوت خينيه المسؤولة في منظمة الموت بكرامة، والتي تقدم كل الدعم المعنوي والقانوني اللازم لرامون ( خافير بارديم)، المصاب بشلل رباعي الاطراف منذ ما يقارب الثلاثين عاما، والذي يسعى ان يحصل على قانون يجيز الموت الرحيم، كي يتمكن من الظفر بالموت الذي بالنسبة له يعد الحرية التي يحلم بها، اذ ان الحياة من وجهة نظره حق وليست واجب، وعلى الاخرين ان يحترموا حق المرء بحرية الاختيار ان اراد هو ذلك.
"البحر في الداخل" يستدعي من الذاكرة فيلم اخر كنا قد تحدثنا عنه سابقا، انه الفيلم الاسباني ايضا "حياتي من دوني".. حيث تتجلى في كليهما ثنائية الحياة والموت، وكل منهما يتبنى الاسلوب الشعري والتأملي، الذي يطلق العقل والحواس في مواجهة الموت، كمقدمة للفيلم ومدخل للموضوع على اختلاف القصة والطرح.



صوت خينيه القادم من خارج الكادر، دون ان نراها او نرى الشخص الذي توجه كلامها اليه، وصيغة المخاطب التي تتحدث بها تجعل كلامها موجه لنا كمشاهدين، هكذا نشعر في البداية لتقودنا من يدنا لاستشعار الطبيعة واطلاق حواسنا قبل ان ندرك انها توجهه الى رامون وهي تزوره في المنزل، لتساعده على تحمل الحياة فتقوده في رحلة تخيلية تطلق العقل الحواس للحد الاقصى من المتعة الاكتشاف والتأمل.
محتوى الصورة ترجمة لما تطلبه خينيه في حديثها، فمن اللون الاسود تفتح شاشة بيضاء كأنها شاشة سينما نتخيل عليها الاشياء، ونبدأ بالاسترخاء والشعور بالسلام حيث تمتزج ببياض الشاشة امواج البحر المتلاطمة، وعندها تطلب ان نتنفس عميقا وبهدوء لينسجم ايقاع تنفسنا مع ايقاع البحر والطبيعة التي نحن امتداد لها.
بعدها يأخذنا صوت خينيه الى ان ننتبه الى التفاصيل نتأملها ونستمتع بها من خلال حواسنا التي نطلقها، فنشعر بملمس الاشياء، الوانها، الضوء، والشعور بالدفء، فنرى في اللقطة الاولى رجلي رامون تدخل الكادر وتختبر ملمس امواج الشاطئ، بعدها نرى جزء من يده في مقدمة الكادر تحس بالضوء والحرارة، وفي عمق اللقطة نرى البحر والصخور، وفي لقطة تالية نرى مع رامون ومن خلف راسه الذي يظهر جزء منه مساحة ارحب من البحر والطبيعة، فنشاركه الاحساس وتأمل التفاصيل والاشياء التي تشغلنا اعباء الحياة عن الانتباه اليها فنغفل عنها.
كل  شيء في مقدمة الفيلم يقود الى الاسترخاء، والهدوء، والتأمل، سواء  صوتها، او ما تطلبه من الاسترخاء والهدوء والتنفس بعمق، الى بناء المقدمة بخمس لقطات عامة ذات ايقاع هادئ، بحيث خمس لقطات على مشهد يزيد عن الدقيقة بقليل اي بعض اللقطات يستغرق خمس ثواني وبعضها 15 ثانيه وهذا زمن طويل لللقطة يفرض الايقاع الهادئ. 
 لمقدمة الفيلم هذه مستوى اخر من الدلالة الفلسفية، حيث تشبه هذه المقدمة حياة الانسان على الارض، التي تبدأ من العدم اللون الاسود ثم تفتح شاشة بيضاء تشبه شاشة السينما هي بمثابة الحياة، وتبدأ شيئا فشيئا تنبض بالحياة، فتمتزج امواج البحر ببياض الشاشة، ونستعرض الشاطئ الى ان تدخل رجلي الانسان، فنتابع حركتهما، ثم اجزاء منه في لقطة اخرى جزء من اليد في مقدمة الكادر في علاقتها مع الحياة والطبيعة في عمق الكادر، ثم لقطة اخرى من خلف رأس رامون، فيظهر راسه كبيرا في مقدمة الكادر والبحر واسعا في العمق، الى ان نستعرض معه البحر فيختفي رأسه من الكادر وبالتالي من الحياة ونتابع بعدها المزج من البحر الى غابات شاسعة بعدها تنسحب الكاميرا تتدريجيا الى خلف زجاج نافذة غرفة وقد احكمت خينيه المرأة المتحدثة احكامه، نكتشف ان خينيه تتحدث الى رجل لا زلنا للان نجهله، تتركه مع موسيقى فاغنر وترحل،  فتستعرض الكاميرا المكتبة والمكان.
على الرغم من ان المخرج لم يستخدم سوى اللقطات العامة، الا انه استطاع ان ينقلنا الى عالم رامون الداخلي وخياله المحلق من خلال، تكوين الكادر الذي يضع اجزاء جسد رامون في مقدمته، فيبدو كأنه في لقطة قريبة، لكنه غير المعزول عن الطبيعة من حوله التي تظهر في عمق الكادر، فندرك علاقته فيها، وهنا على عكس فيلم حياتي من دوني" الذي اعتمدت فيه المخرجة على لقطات قريبة ومعزولة للبطلة عما حولها سوى المطر، لان كل منهما تخدم الوظيفة المراد منهما، حيث في "البحر في الداخل" بالاساس هناك علاقة تجمع رامون مع الطبيعة والبحر تحديدا حيث كان شغله في البحر قبل حادثة ارتطام راسه بصخور البحر وهو يغطس، وهو اذ يتمنى ان يتحرر بالموت وبان يكون جزءا من  هذه الطبيعة وهذا البحر، لهذا كان اظهار العلاقة المتبادلة، اما في "حياتي من دوني" فكانت ازمة البطلة ادراكها ان الزمن يهرب منها، وانشغالات الحياة سلبتها الاستمتاع والتأمل بكثير من التفاصيل الحسية، لذلك تحتاج ان تكون مع نفسها وتركز على حواسها بمعزل عن الاخرين وانشغالات الحياة.

رانيه عقلة حداد

مقالات متعلقة