الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 28 / أبريل 06:01

مدلين عيسى: أيقونة الأقصى المبارك العنيدة/ بقلم: إبراهيم عبدالله صرصور

ابراهيم عبدالله صرصور
نُشر: 29/08/19 09:50,  حُتلن: 15:07

ابراهيم عبدالله صرصور في مقاله:

مكانة القدس والاقصى وما حولها  مستمدة من صميم الدين والحضارة، ومن صلب التاريخ والسياسة

كانت القدس وكان الاقصى المبارك عبر التاريخ المؤشر الأقوى والمسبار الادق لحالة الأمة صحة واعتلالا.. فإن كان الأقصى المبارك وما حوله معافا كان ذلك مؤشرا على معافاة الأمة وسلامتها، والعكس صحيح..

مكانة القدس والاقصى وما حولها – كما هو معروم من الدين بالضرورة – مستمدة من صميم الدين والحضارة، ومن صلب التاريخ والسياسة.. لكل ذلك حظيت منذ فجر التاريخ برعاية ربانية خاصة انتهت الى صورتها الكاملة في رعاية الإسلام والمسلمين لها عبر تاريخ طويل وحتى يوم القيامة، وإن "رَقّ" سلطانهم عليها في بعض مراحل التاريخ كما وقع إبان الحروب الصليبية والاحتلال البريطاني والإسرائيلي الممتد حتى اليوم..

لا غرابة إذا أن يحظى المسجد الأقصى ومدينة القدس والأرض المباركة حولهما بهذه العناية الربانية التي سَخَّرَ لحمل امانتها اجيالا أوقفت حياتها لخدمته، ودفع العدوان عنه بكل غال ونفيس، فدفعت أجيال المسلمين أثمانا باهظة في سبيل هذه الغاية النبيلة، وسجل التاريخ صورا نادرة لعظيم ما قدمت الامة للأقصى حتى يظل عزيزا شامخا، حرا أبيا، مهوى لقلوب الصالحين والعباد الزاهدين والعلماء العاملين والجنود المجاهدين والحكام العادلين..

كان فتحها الرمزي نبويا (الاسراء والمعراج)، وكانت فحتها السلميَّ عمريا راشدا (في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي تسلم مفاتيحها صلحا من يد صفرونيوس)، ثم كان تحريرها الحربيَّ صلاحيا (حينما حررها صلاح الدين الايوبي رضي الله عنه من ايدي الصليبيين)، وسيكون تحريرها في هذا الزمان من نوع يقدره الله تعالى الذي وعد عباده بالنصر، مصداقا لقوله تعالى: "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ"..

كما ان القدس اسم جميل مُسْتَلٌ من اسم الله تعالى القدوس، فإن مصير القدس والاقصى مرتبط بمصير الحرم المكي والحرم النبوي، فمن فرَّطَ في المسجد الأقصى والقدس وقضية فلسطين، فقد فرط في الحرمين مكة والمدينة، والعكس صحيح.. ليس غريبا مع هذا الوضع ان تنفتح شهية التحالف الصهيو – امريكي لاغتيال القضية الفلسطينية وفي قلبها القدس والاقصى، والتمهيد لتهويدها وإسقاطها نهائيا من على اجندة الاهتمام الدولي بعدما اسقطتها من على اجندة الاهتمام العربي والإسلامي..

إلا ان كل المتآمرين على القدس والاقصى وقضية فلسطين نسوا او تناسوا ان هذه القضية قضية ربانية – عقائدية، وستظل كذلك الى آخر الزمان، فإن تأخر أكثر زعماء العرب والمسلمين اليوم عن القيام بما يفرضه عليهم دينهم وعروبتهم وكرامتهم وتاريخهم تجاهها، فلن يتخلى الله عن قضيتها، وسيبعث من "عباده" من يجوس خلال الديار "وكان وعدا مفعولا"، ولا بد ان يأتي اليوم الذي يتحقق فيه وعده: "فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا"...

(1) قديما اتخذ فرعون قراره - بناء على رؤيا رآها - بالتخلص من كل من يهدد عرشه، أو ممن سيعمل لتحرير المظلومين والمقهورين من سلطة حكمه الغاشم.. ذهب فرعون في ذلك مذهبا لم يذهب اليه أحد من الظالمين قبله، فأمر بقتل كل ذكر يولد لعبد من عبيده، متوهما ان ذلك سيحفظ سلطانه وسيحمي ملكه! فكان ان جاءت نهايته على يد من رباه في بيته كبعض ولده..

ماذا مع فراعنة اليوم؟ وماذا مع قرارهم قتل "صلاح الدين" الموعود الذي سيكتب الله على يديه تحرير البلاد والعباد، وإنهاء عهود الطغيان والاستبداد؟

هؤلاء الفراعنة هم الذين أخذوا سيفه وسرقوا ترسه ونحروا فرسه، وتسابقوا في التفنن في تعذيبه وحصاره وملاحقته.. فراعنة اليوم كفرعون موسى، أٌقسموا ليقتُلُنَّ كل مولود يُشك أن يكون "صلاح الدين" الموعود، أو ان له صلة به، فأطلقوا أجهزتهم الأمنية وجنودهم ليرصدوا كل حامل قد تكون على قسمات بطنها الخارطة السريّة للقدس بدروبها العتيقة، والتي تمتدّ من "حطين" وصولا إلى القبّة المشرّفة.. لضمان الا يكون هنالك منفذ مهما كان ضيقا يمكن ان "يتسلل" منه هذا الفارس المنتظر، أغرقت أنظمة الفساد والاستبداد شعوبنا العربية والاسلامية في مستنقعٍ آسنٍ من "قيئٍ" أسموه فنّا وسياسةً وإعلاماً هابطا، هو في حقيقته معولُ هدمٍ لكل قيمٍ الأمة واخلاقها وقيمها، وآلة تقويض لقلاع ثوابتها الدينية والوطنية..

لكن التاريخ الإنساني كله أثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن بطش الظالمين مهما بلغ في وحشيته، لن يكون بمقدوره ان يمنع قدر الله في انتصار الحق مهما طال الزمن ومهما بلغت التضحيات.. كما ان كل ما يمكن ان يضعه اهل الباطل من خططٍ خبيثة، ويبذلونه من مكر ودهاء، فلن يمنعوا "صلاح الدين الموعود" من ان يخرج حاملا اللواء ومبشرا بالنصر..

(2) علَّمَنا التاريخ أن الله سبحانه لم يحرم الأمة من بشائر تمهد لظهور "صلاح الدين الموعود"، في أكثر لحظاتها انكسارا، فتشرئب الاعناق التماسا للنور في طرف النفق، وتمتلئ النفوس ثقة في المستقبل، وتندفع أفواج المخلصين والمخلصات لتحظى بشرف المساهمة في صناعة تاريخ جديد..

مدلين عيسى ابنه الحركة الإسلامية من مدينة كفر قاسم بلد الشهداء والدعوة، شابة في مقتبل العمر، في العشرينات من عمرها، كرست حياتها منذ تفتحت عيونها على الحياة لخدمة القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك.. لم تنشغل بما انشغلت به مثيلاتها من الفتيات اللواتي ينصرف اهتمامهن في هذا الجيل في انتظار الفارس القادم على ظهر حصان أبيض ليأخذهن إلى عالم رسمنه في خيالهن...

أما (مدلين) فمختلفة تماما.. إنها ايقونة من أيقونات القدس التي انصرف اهتمامها في انتظار "فارس الأقصى" الموعود الذي سيمحو عن وجه المسجد المقدس عبوسه، ويغسل أرضه من دنس ورجس الاحتلال الإسرائيلي.. لا تأبه بأي تضحية في سبيل هذه الهدف الذي جعلته قبلتها التي لا تحيد عنها مهما دفعت في سبيلها من تضحيات وأثمان.. استحقت بسبب تفانيها في خدمة القدس والاقصى ان تعينها الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني من خلال "جمعية الأقصى لرعاية الأوقاف والمقدسات الإسلامية"، المسؤولة الفذة عن مشروع "قوافل شد الرحال" الذي يربط الالاف من مسلمي الداخل بالقدس والاقصى كل أسبوع، ليشكلوا واحدا من خطوط الدفاع عنه حتى يأتي الله بأمره..

شهد الأسبوع الماضي واحدة من صولاتها وجولاتها في مواجهة وحوش الاحتلال الإسرائيلي وجنوده وشرطته المدججة بالسلاح.. كانت في ساحات الأقصى كعادتها ومعها أطفال صغار هم أبناء أخيها، جاءت بهم لتربط قلوبهم في هذا الجيل المبكر بثرى الأقصى، ولتملأ نفوسهم بحب المكان والزمان، وعقولهم بالعظيم من الاسرار والأنوار..

نقلت وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي صورا ومقاطع امتلأت بشاعة لعدد من عناصر الاحتلال الإسرائيلي وهم يهاجمون بوحشية مدلين والأطفال الذين معها، دون أي سبب او مبرر سوى خوف هذه القوى الظلامية من (مدلين) التي تمثل إرادةَ شعبٍ قرر الا ينحني أمام عواصف الاحتلال ورياحه القواصف، ولا أمام جبروته ووحشيته..

قِيدَتْ مدلين وصاحبتها شفاء غالية والأطفال الى مركز شرطة الاحتلال بشكل بشع، تم اعتقالها ولم يُفرج عنها الا في إطار المحكمة في اليوم التالي بشرط الابعاد عن الأقصى الذي أصبح كروحها بلا مبالغة..

لم استغرب ولن أستغرب من سلوك أجهزة الاحتلال الإسرائيلي الوحشية تجاه مدلين، لكنني استغربت صمت منظمات حقوق المرأة والطفل والانسان، وخرس المدافعين عن مغني هنا او مغنية هنالك عن عدوانٍ همجيٍّ على شابة وأطفال.. لم يكن صوت القائمة المشتركة مرتفعا بما يكفي حيال ما جرى أمام سمع وبصر الدنيا.. كما كان صمت لجنة المتابعة العليا ولجنة الحريات التابعة لها من هذا الاعتداء الهمجي على الابنة مدلين عيسى وصاحبتها شفاء ابو غالية والاطفال بسبب نشاطها في خدمة الاقصى والقدس، مريبا جدا لا يكاد يصدق..

غريب، بل ومستهجن هذا الصمت المريب الذي يدل على أننا ما زلنا نعيش نكبة نفسية تكرس فينا الشعب الفتات بدل الشعب الواحد المتماسك الذي يتعامل مع قضاياه بميزان عادل واحد..

لكَ الله يا أقصى.. لكِ الله يا ابنتنا مدلين، فانت ايقونة الاقصى والقدس بجدارة، وستظلين محط احترام وتقدير شرفاء شعبنا وأمتنا ابد الدهر..

(3) لخصت (مدلين) قصتها بكلمات تُغني عن خطب مطولة ومقالات منمقة وقصائد عصماء، وذلك على صفحتها الشخصية على الفيسبوك، تعليقا على الاحداث التي مرت بها، قائلة تحت عنوان: "ذا هو وجه إسرائيل الحقيقي":

"كان بإمكانهم أن يسلّموني استدعاء للتحقيق وينسحبوا من المكان مراعاة لوجود أطفال أخي معي الذين لم يتجاوز عمر أكبرهم خمس سنوات....

كان بإمكانهم التصرّف بطريقة اخرى حتى لا يرعبوا الأطفال...

لكن هذا هو الاحتلال الإسرائيلي، وهذه حقيقتهم الشنيعة مهما حاولوا تجميلها، يتصرّفون بوحشية وعنجهية ويرعبون الأطفال بالاعتداء عليّ وعلى المصلين أمام أعين الصغار ثمّ يعتقلوننا مع الأطفال!

شرطة إسرائيل توفر الأمن للمتطرفين المقتحمين للمسجد الأقصى حتى لو على حساب إرهاب وارعاب واعتقال أطفالنا الصغار - وهذا ما رأيناه أيضا يوم عيد الأضحى في الأقصى.!..

والله إنّ هذا الظلم لن يدوم وهذا الاحتلال إلى زوال...

أمّا بالنسبة للاعتقال سألخّصه بردّي على ضابط المخابرات في -مركز القشلة- عندما أخبرني أنهم قدّموا طلب بإبعادي انا واختي - شفاء ابو غالية - عن المسجد الأقصى لمدة 6 أشهر: (أنتم لا تعرفون مع أي أُناس وشعب تتعاملون. والله إنّ الاعتداءات والاعتقالات والتحقيقات وحتى السجون لا تزيدنا إلّا تعلّقاً بالمسجد الأقصى. ولو علمتم ماذا تفعل بنا الإبعادات لمَا تجرأتم على إبعادنا يوماً واحداً.).. انتهى..

قدمت (مدلين) الاثنين 26.8.2019، شكوى رسمية في قسم التحقيقات مع الشرطة في وزارة العدل (ماحاش) ضد الشرطي المعتدي ومن معه.. لا أمل في ينصفنا جلادنا، ولكن حتى نقيم الحجة ونكشف الحقيقة..

الابنة مدلين تستحق من مجتمعنا العربي كل التقدير والاحترام، كما تستحق التكريم من اعلى مؤسساتنا الوطنية والدينية لما تقدمة راضية محتسبة، من تضحيات في سبيل قضية القدس والأقصى..

الابنة مدلين عيسى المتزينة بحجابها، نعتبرها مثلا اعلى لكل النساء المناضلات في سبيل القيم العليا والقضايا الكبرى..

نفخر بك يا ابنتنا الكريمة ونعتز، وإنك لمنصورة، وإن قضيتك التي وقفت حياتك من اجلها لمنصورة ان شاء الله، شاء من شاء وأبى من أبى.. يكفيك ويكفينا بشرى ربنا سبحانه في قوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا. ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا. إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا).. صدق الله العظيم...

(4) الاحتلال الإسرائيلي مستمر في تنفيذ خططه لشطب القضية الفلسطينية وفي قلبها القدس والاقصى من على أجندة الاهتمام الدولي مستغلا حالة الانهيار العربي والانحياز الأمريكي لإسرائيل.. من ذلك اقتحام بيوت كبار المرجعيات الدينية الشيخين سلهب وصبري في الأيام الاخيرة، التحقيق معهم وابعادهم عن الأقصى، والتي تنضاف الى عدد كبير من الممارسات والانتهاكات العلنية والسرية منذ احتلال القدس والاقصى عام 1967 وحتى اليوم، تعتبر كلها تصعيد يجب ان يحرك المعنيين قبل فوات الأوان.

أكثر ما يقهرني في هذا الصدد مناشدة الدول العربية والاسلامية المجتمع الدولي، تحمل مسؤولياته لوقف عدوان اسرائيل على القدس والأقصى!

اي انحطاط هذا؟

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com   


مقالات متعلقة