الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 26 / أبريل 09:02

العنف أزمة مستعصية .. لماذا؟/ بقلم: د. رفيق حاج

د. رفيق حاج
نُشر: 10/06/19 10:00,  حُتلن: 16:07

د. رفيق حاج في مقاله: 

العنف الإجراميّ هو المحطّة الأخيرة ومعالجته في هذه المرحلة غير مجدية أو ذات فائدة محدودة

نسبة السلاح الموجود في البلدان الدرزيّة أكبر بكثير من باقي القرى الأخرى بحكم الخدمة العسكريّة التي يقوم بها أفرادها لكن نسبة ضحايا العنف لديهم أقل بكثير من غيرها. إذا، القضيّة ليست السلاح وإنّما الدافعيّة القائمة لدى حامل السلاح

أغلب حالات القتل تحصل على خلفية أمور ماليّة بين أفراد العالم السفليّ وعلى من يتعامل معهم من المجتمع العاديّ قسريّا ام اختيارا

الفقر لا يمكن أن يكون السبب الوحيد لأنّنا شهدنا مجتمعات فقيرة ومع ذلك آمنة، وهذا يدعونا إلى التفكير بأنّ هنالك أسباب أخرى للعنف غير تدنّي الوضع الاقتصاديّ مثل اهتراء النسيج الاجتماعيّ وغياب قوانين التعامل بين أفراد المجتمع غير تلك التي عهدناها في أروقة المحاكم

يُطلق على الظاهرة الهدّامة اسم "أزمة" عندما نيأس من حلّها ونبدأ بالتعايش معها ونحن قاب قوسين أو أدنى من تسمية ظاهرة العنف كـ "أزمة". لقد بدأنا نتعايش مع عدد الضحايا وسلّمنا أمرنا للقدر بل وبتنا نكيل التهم للشرطة التي لا تقوم بواجبها وندين قياداتنا التي لا تلعب دورا في تخفيف وطأة العنف، وأكثر نشاط نقوم به هو التأسّف والحسرة على الضحايا وعلى ذويهم.

إنّ تحوّل ظاهرة العنف إلى أزمة يعود إلى صعوبة تقصّي الأسباب العينيّة التي تؤدّي إلى ذلك وإذا وجدنا تلك الأسباب فإنّ قدرتنا على التأثير عليها محدودة جدّا لأسباب عديدة: (أوّلا)- افتقارنا إلى المصادر الماليّة والكفاءات المهنيّة المطلوبة لتطبيق برامج وتنفيذ خطط من شأنها أن تحدث التغيير المنشود. (ثانيا) رجوعا إلى مكانتنا السياسيّة وكوننا أقليّة إثنيّة داخل دولة معادية لشعبنا يضعنا على الهامش وبعيدا عن موقع القرار، والخيار الوحيد الذي يقف أمامنا هو مقارعة المؤسّسة المتنكّرة لحقوقنا. (ثالثا)- نحن لا نملك مؤسّسات سقفيّة شاملة لننضوي تحتها ولنتساعد فيما بيننا بعيدا عن الاختلافات الدينيّة والمنطقيّة والحزبيّة وهذا يضعّف من فرص النجاح لأي مجهود يُبذل من أجل تخفيف أزمة العنف.

يخطئ من يحسب أنّ العنف سببه واحد أو سببان أو ثلاثة أو أكثر. من الهيّن علينا أن ندّعي بأنّ أغلب الأرواح التي زُهقت هي حوادث إجراميّة قام بها مجرمون ومنحرفون ولذا فعلى الشرطة أن تقوم بملاحقتهم وتقديمهم للعدالة وسجنهم وراء القضبان لردع الجانين المحتملين، أحقًا هذا هو المطلوب فقط زجّ مثل هؤلاء بالسجون وساعتها سيستتب الأمن في بيوتنا وحاراتنا؟ السؤال الذي أودّ أن أطرحه كيف وصل هؤلاء إلى حالة "قاتلون" أو "قتلى"؟ هل وصلوا إلى هذه الحالة مخيّرين أم مسيّرين؟ من الحكمة أن نتتبّع مسيرة المنخرطين بالعنف ونصل إلى منابع الظاهرة ولا أن نحكم عليها في نهاية المسار، لأنّ العنف الإجراميّ هو المحطّة الأخيرة ومعالجته في هذه المرحلة غير مجدية أو ذات فائدة محدودة.
هنالك أيضا مجموعة كبيرة من قادتنا السياسيّين المتأكدّين بأنّ سبب الجريمة هو انتشار السلاح في قرانا وسهولة الحصول عليه. لكنّ نسبة السلاح الموجود في البلدان الدرزيّة أكبر بكثير من باقي القرى الأخرى بحكم الخدمة العسكريّة التي يقوم بها أفرادها لكن نسبة ضحايا العنف لديهم أقل بكثير من غيرها. إذا، القضيّة ليست السلاح وإنّما الدافعيّة القائمة لدى حامل السلاح. هنالك أيضا من يدّعي أنّ العقوبات التي تنزلها المحاكم الاسرائيليّة على الجناة غير كافية، ولكن الكلّ يعرف أنّ أغلب مكائد القتل تُحاك بالسجون ممن يمضون فترة محكوميّتهم وتُنفّذ من قبل أترابهم خارج السجون. هنالك من يعزو العنف لغياب الرقابة، ألم تشهدوا بأمّ أعينكم أنّ جرائم القتل نُفّذت رغم الكاميرات المنصوبة بالشوارع؟
أغلب حالات القتل تحصل على خلفية أمور ماليّة بين أفراد العالم السفليّ وعلى من يتعامل معهم من المجتمع العاديّ قسريّا ام اختيارا. هنالك تجارة مخدّرات وسلاح ومهرّبات أخرى يتداول بها المجرمون ليرتزقوا ويبسطوا نفوذهم. من هم هؤلاء؟ أليسوا أبناء عائلات فقيرة ومحطّمة؟ أليسوا شبابا تسرّبوا من المدارس أو فشلوا في مسارهم المهنيّ ويبحثون عن طرق مختزلة وأرباح فوريّة ليصلوا إلى مراتب اجتماعيّة وسياسيّة؟ إنّ من آل بهم إلى ذلك هو الفقر أو على وجه الدقّة "ألعوز" الذي يعكس لهفة الفقير المدقع لمضاهاة مرتبة الغني والقادر، والذي يعتبر كلّ الطرق متاحة من أجل ذلك. عندما نقول الفقر طبعا نعني كلّ تداعياته وتجلّياته- الضيق السكنيّ والاختناقات المروريّة واستتباب ثقافة الفقر وغياب القيم الانسانيّة.
لكن الفقر لا يمكن أن يكون السبب الوحيد لأنّنا شهدنا مجتمعات فقيرة ومع ذلك آمنة، وهذا يدعونا إلى التفكير بأنّ هنالك أسباب أخرى للعنف غير تدنّي الوضع الاقتصاديّ مثل اهتراء النسيج الاجتماعيّ وغياب قوانين التعامل بين أفراد المجتمع غير تلك التي عهدناها في أروقة المحاكم. الكلّ يعرف أن النسيج الاجتماعيّ بحاجة إلى منظومة قيميّة يلتزم بها الجميع وعلى رأسها قيمة الانتماء للبلد أو للشعب وقيمة تقبّل الآخر، لكن للأسف هذه القيم من الصعب أن تسود في مجتمع يصارع البقاء ويقبع ثلثا أبنائه تحت خطّ الفقر.
أحد أسباب الفقر الذي نقبع به هو التمييز اللاحق بنا. لقد بات معروفا أنّ من يشعر بالتمييز في دولة ما يفقد الأمل بمحاولة تحسين أوضاعه ويفقد الثقة بزعمائه ويشكّ بنواياهم وبقدرتهم ويفقد أيضا الثقة أيضا بأبناء شعبه الذين يتّبعون إلى الشريحة المضطهدة. من المسؤول عن سياسة التمييز؟ طبعا، الحكومة- الحكومة مسؤولة عن التمييز والتمييز هو المسبّب للفقر والفقر هو الذي يؤدّي إلى انحسار العمل الجماعيّ ورغبة الفرد بالمشاركة به.
باختصار، نحن بصدد أزمة معقّدة ذات عوامل عديدة ومتداخلة ومتناقضة فيما بينها واختلطت بها الأسباب والنتائج مع بعضها البعض، نحن نتّهم الشرطة بالتقصير ونطلب منها التدخّل لكننا لا نثق بها ونعتبرها ذراعا من أذرع التمييز والقمع الموجّهة ضدّنا. نحن نتّهم قادتنا بعدم قدرتهم على ردع العنف ولكننا لا نلتف حول الأعمال الجماعيّة التي يبادرون إليها. نحن نعي عجزهم ونتوخّى منهم أن يقوموا بانتشالنا من هذا الوضع. من يضع التهمة على طرف واحد هو مُضلًّل ومُضلِّل وليخلِ الطريق لمن يدركون شموليّة الموضوع وأصحاب الخبرة في إيجاد الحلول.
هذا الوضع المعقّد يتطلّب منّا أن نعالج البنى التحتيّة لمجتمعنا ونحافظ على سلامتها وعلى وظائفيّتها مثل تعزيز النسيج الاجتماعيّ وتبنّي قيم الانتماء وتقبّل الاخر والديمقراطيّة من قبل مدارسنا وسلطاتنا المحليّة وتشجيع أبنائنا على العلم والتحصيل ليخرجوا من دائرة الفقر. هذا لا يعني أن نتخلّى عن مقارعة السلطة وإرباكها والضغط عليها في كلّ المحافل المحليّة والعالميّة وإنّما نبني بيد ونربّي أجيالا فاضلة وبيد أخرى نناضل من أجل نيل حقوقنا.

* هذه المقالة كتبت على شرف مؤتمر القدرات البشرية المنعقد في الطيبة من قبل لجنة المتابعة

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com

مقالات متعلقة