الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 26 / أبريل 00:02

الإكراه الديني واللاديني في الحيّز العام/ بقلم: د. منصور عباس

د. منصور عباس
نُشر: 29/09/18 07:44,  حُتلن: 13:52

معنى الإكراه في السياق التعبدي والاعتقادي، أن تُلجِئ فردا او جماعة من الناس إظهارَ معتقد او فعل سلوك ديني او لا ديني

نحن في الحركة الاسلامية عرّفنا أنفسنا اننا جماعة دعوية تربوية تلتزم بفقه الدعوة ومنهج الدعاة بالتبليغ، فتنادي الناس الى القيام بما أمرهم الله به والانتهاء عما نهاهم عنه

مهم جدا أن نبني تصورا نظريا حول مفهوم الإكراه بشِقّيه الديني واللاديني، في سياقاته المختلفة، تعبدا واعتقادا، وسلوكا اجتماعيا وعُرفيا وسياسيا. 

فرغم أننا لا نجد من يجيز الإكراه، إلا أننا نجد من يمارسه قولا وفعلا ويبرره، والأهم أنه لا يدرك أنه يمارسه.

معنى الإكراه في السياق التعبدي والاعتقادي، أن تُلجِئ فردا او جماعة من الناس إظهارَ معتقد او فعل سلوك ديني او لا ديني، في انتهاك واضح لحرية الدين أو الضمير. وقد يكون الإكراه أن تمنع فردا من إظهار معتقد أو فعلِ سلوك يرضاه لنفسه.

المثال الواضح لهذا التعريف الأساسي من تاريخنا الاسلامي، هو سلوك قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في مكة. حيث حاولوا بشتّى السُبُل صدَّ المؤمنين عن الدين الجديد. وقد وصل الأمر الى حد القتل والتهجير والتقييد، وغيرها من وسائل الإكراه القولي والفعلي.
المثال الاخر المعاكس من التاريخ الاسلامي، عندما أراد بعض المسلمين إجبار أبنائهم وإخوانهم الدخول في الاسلام، وترك اليهودية أو النصرانية، نهاهم الرسول صلوات الله عليه، وأنزل الله تعالى الآية الكريمة "لا إكراه في الدين".
من هنا أيضا يمكن أن نفترض أن وجود عدد من الآيات القرآنية التي تنهى عن فرض الدين وإظهار الإيمان بالقوة أو الجبر، دليل واضح على وجود ظاهرة الإكراه في بعض الأوساط، فاحتاج الأمر الى وجود حكم شرعي دائم يعالج الظاهرة.

أما الإكراه في السياق الاجتماعي والعرفي والسياسي، فهو أَعقدُ في التعريف وأوسعُ في الانتشار، ولذلك هو مَثار خلاف واختلاف.
الإكراه في هذا السياق هو أن تفرض نمطا ثقافيا أو سلوكا اجتماعيا أو تقليدا عرفيا أو موقفا سياسيا، نابعًا من شريعة دينية أو مذهبيات (أيديولوجيات) لا دينية، بخلاف قناعة الانسان وضميره ورضاه.
الأمثلة الأشهر في هذا السياق، تتعلق بفرض لباس معين او منعه، والسماح بطعام وشراب معين أو منعه، وظاهرة الاختلاط او الإنفصال بين الرجال والنساء في الفعاليات والنشاطات المختلفة، وتنظيم الفعاليات والعروض الثقافية والفنية والرياضية بأشكالها ومضامينها المختلفة، وإقامة شعائر دينية او لا دينية عامة تؤثر على الحيّز العام كإغلاق المطاعم خلال رمضان او إظهار الافطار من غير الصائمين، او حرية الحركة بالمركبات في يوم الغفران اليهودي، أو منع الشعائر الدينية في الحيّز العام المشترك.
هنا نلاحظ أنه عندما يتعلق الإكراه بالحيز العام المشترك، تختلف معاير وتعاريف الإكراه الديني واللاديني بين الفرقاء.

التعريف الضيق للإكراه في الحيّز العام:
يقول البعض إنه لا يُعَدُّ إكراها دينيا او لا دينيا كل قانون او عرف اجتماعي او حاجة طبية لمجرد موافقتها لمعيار ديني او لا ديني.
مثال ذلك لو منعتْ سلطةُ الدولة الرسمية أو أجازت شرب او تصنيع الكحول، فلا يعد هذا - حسب تعريفهم- إكراها دينيا لمجرد تحريمه في الشريعة الدينية. ولو أمر الطبيب بتناول دواء فيه كحول مثلا، لا يعد هذا إكراها لا دينيا. كذلك يعتبر هذا الفريق ان العرف الاجتماعي المستقر لا يعبر عن حالة اكراه اذا ما وافق حكما دينيا او معيارًا لا دينيا. واقعنا كمجتمع عربي فلسطيني أعقد لأن علاقتنا مع سلطة دولة اسرائيل فيها التباس كبير، ومنظومة القوانين لا تعبر غالبا عن هويتنا وخصوصيتنا، رغم أن الواقع الاسرائيلي يفرض نفسه ولا يمكن تجاهله مطلقا. فهل يمكن ان تقوم السلطات المحلية المنتخبة عربيا، بدور خاص في هذا المجال؟

التعريف الموسّع للإكراه في الحيّز العام:
من جهة اخرى يعتبر البعض الاخر ان كل فعل سيادي أو سلطوي يخدم قضية دينية او لا دينية يعد إكراها مرفوضا . وكل مراقبة مجتمعية بصورة قانون او امر تنفيذي او ضغط فعال لمؤسسات او أفراد مرتبط باعتبارات دينية او لا دينية، يُعتبر إكراها مرفوضا. والآخر يتطرف اكثر فيقول، كل قانون يمكن ان يسن بشكل مختلف لولا وجود الدين يعد إكراها دينيا.
بناء على هذه التعريفات سنجد من يوسع أو يضيق مفهوم الاكراه عموما، وسنصل الى درجة تناقض في المواقف، بحيث يقول شخص: ان عرض فِلم معين في المدرسة هو اكراه لاديني، وياتي الاخر ليقول: ان منع عرض الفلم هو اكراه ديني. فماذا سنفعل وكيف سنسلك؟.

الإشكال الاخر المؤثر جدا في صياغة التعريفات والمواقف، يتعلق بفهمنا لقضية المرجعيات ومن يمثلها، والسلطة التي نمارسها أو لا نمارسها، والسؤال حول أي مرجعية يمكن أن تحتوي التعددية في المجتمع، وتحافظ على تماسكه، وتمكن فاعليته الانسانية.

الإكراه الديني وآلياته:
كمثال، أنا شخصيا اعتبر الشريعة الاسلامية مرجعيتي العليا وفِي ظلالها أتحرك، وأفهمها بصورة تحقق المطلوب في حفظ تماسك المجتمع وتعزيز فاعليته، ومع ذلك أحرص على التعددية فيه وتمكينها من مفاعيلها. كل ذلك من وحي النص الديني وتحت ظلال آيات التعددية في القران الكريم.فهل هذا يفترض توافقا تلقائيا شبيها بين كل من يعتبرون الشريعة مرجعا لهم، اذا ما تحدثنا عن الاكراه موقفا وسلوكا؟

نموذج عام:
نحن في الحركة الاسلامية عرّفنا أنفسنا اننا جماعة دعوية تربوية تلتزم بفقه الدعوة ومنهج الدعاة بالتبليغ، فتنادي الناس الى القيام بما أمرهم الله به والانتهاء عما نهاهم عنه، وتنفي عن نفسها أي سلطة اخرى، انسجاما مع قول الله تعالى " فذكر إنما انت مذكر لست عليهم بمصيطر"، والآيات في إرساء هذا المنهج كثيرة معلومة.
لو خرجت حركة إسلامية اخرى واعلنت عن نفسها جماعةَ دولة مثلا ذات شرعية دينية، فان مفهوم الاكراه عندها سيختلف تماما عن الحركة الاولى، وسيترتب عليه سلوكا وخطابا آخر. هذا المثال قد يطبق ايضا على أي جماعة او حزب ايديولوجي لا ديني في تعريفه.
الاشكاليات ستظهر عندما نريد ان ننزل فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الى واقع الحياة . هل انزلها بمنهج الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. أم انزله واقعا عمليا بمنطق من يمتلك السلطة أو يفترض انه يمتلك السلطة الشرعية. في هذه الحالة سيتحرك محور انكار المنكر من الإنكار بالقلب الى القول باللسان وسيصل حتما الى الفعل باليد. وقد أمارس العنف ضد من يرتكب المنكر، وأبرر ذلك بسلطتي الشرعية التي أدعيها لنفسي.

هذه الاشكاليات لا تناقش عادة في الأوساط الاسلامية، ولا ألمس ان هنالك إدراكا حقيقيا لمفهوم السلطة والمرجعيات الشرعية والقانونية والعرفية، وكيف تبنى فعليا. وبالتالي قد يفهم احد المتحمسين أو الغيورين او الجاهلين أن إنكار المنكر يجيز له ان يلقي قنبلة صوتية، وربما إطلاق رصاص على جهة معينة.
لذلك نصيحتي لكل متصدري الفتوى والخطاب الديني في بلادنا ان يحترسوا دائما وأن يؤكدوا المحاذير الشرعية في إنكار المنكر، وخصوصا في كل فتوى تعالج قضايا تتعلق في المجال العام. والقاعدة المقاصدية تحظر إنكار المنكر بمنكر أكبر منه.

إكراه علماني وآلياته:
من جهة ثانية يأتيك إنسان يريد فرض قناعاته العلمانية المتطرفة، كإلغاء أي مظهر ديني في الحيّز العام، ويخاطبك أن تديّنك في حيزك الخاص فقط وفِي صومعتك، كأن الدين شيء غريب وطارئ على المجتمع، متجاهلا الحقيقة التاريخية، أن الدين صاغ مجتمعنا وأمتنا منذ ألف وأربع مائة سنة، وأكثر بالنسبة للإخوة المسيحيين. وأن المذهبيّات (الايديولوجيات) هي الطارئ الدخيل رغم استعدادنا للتعامل مع اجزاء فيها بإيجابية خصوصا اذا انسجمت مع مفاهيمنا الأصيلة. من جهة ثانية يريد هذا الانسان أن يسيطر بأيديولوجيته على الفضاء العام ووسائل الضخ الإعلامي، ويضع المعايير والقيم، ولا ينتبه ان مذهبيّته تحولت الى دين يفرضه على الحيّز العام والشخصي للناس.

المخرج:
الخروج من هذه الإشكاليات يرتكز في الأساس على ثلاثة مرتكزات ضرورية. التسامح، الحوار والاستعداد للتوافق وعقد تسويات اجتماعية، تلبي تطلعات المجتمع بحفظ كيانه واستمرار أدائه المجتمعي كحاضنة للجماعة الانسانية فيه.

بدوري يمكن أن أقدم تأصيلا من الشريعة الاسلامية لهذه المرتكزات وكيفية تفعيلها عمليا، دون أن أخرج قيد أنملة عن مبادئ وثوابت الشريعة، ولكن المقام يطول، وطمعي ان يشاركني آخرون في هذا الجهد أو ان نطلق مبادرة مجتمعية تثمر ميثاقا اجتماعيا، يرشدنا لرؤية الطريق وتحقيق المقاصد الضرورية لوجود وتطور مجتمعنا العربي الفلسطيني، وقدرتنا على مواجهة التحديات والمخاطر. 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com

مقالات متعلقة