أيلول: انين الذاكرة ونزيف الحاضر الآتي

لا شيء يتحداني مثل هذه الورقة البائسة التي تلبس كفنها مسبقاً ، خاصةً في لحظات حزني وغضبي عندما اقف امامها كالخادم الذي اخطأ ووقف مكتوف الايدي امام سيده ، منتظراً صفعة ما او ضربةً موجعة من سوط اعمى !
ولهذه الورقة في ايلول رائحة اخرى غيرَ تلك الرائحة العطرة التي اعتدتها حينما كانت تتراقص ابيات القصيدة فوق سطورها .. رائحتها الآن تشبه رائحة الميت الذي توفي ونسيه الجميع متعفناً في شقته لعدة ايام ..
وفي جينات الحبر اكتشفت طفرةً غيرت مسار الكتابة لتؤدي بها ومن كل الجهات الى ميدان واحد ..الوحدة !
الحمد لله ..الدنيا لسة بألف خير ..لازال هناك ورقة تستطيع احتضاننا ومواساتنا دون ان تمثل ادواراً هزيلة او تنتظر مقابلاً !
لكنه ايلول..يقتحم كل شيء ،حتى بيوت ذاكرتنا !
انه هذا الوحش الغازي الوقح الذي جاء ليذكرني بواجهات ومجازر ايلول الاسود عام 1970م ، عندما  تصادم الجيش الاردني مع قوات منظمة التحرير الفلسطينية بعد ان خشي لجبته توريطه بمواجهات مع اسرائيل ، ليكلف الشعب الفلسطيني عدداً كبيراً من القتلى والجرحى .
انه ايلول الذي يعود بنسيمه اللئيم " لصبرا وشتيلا" ، تلك المجزرة الغاشمة والتي لم تستطع المصادر الرسمية تحديد عدد ضحاياها بالضبط ، فتقديرات المخابرات الاسرائيلية تشير الى 800 شخص ، والمصادر الفلسطينية تشير الى آلاف الضحايا، كما اكد العديد من الصحافيين عثورهم على ادلةٍ لعمليات اعدام فوري للشباب ..واقبح وسائل التعذيب واستئصال الاحشاء في كلا المخيمين ..
ومع ان المجزرة تمت اثناء احتلال بيروت بقيادة شارون ، لم توصِ لجنة كاهان التي كلفت بالتحقيق ، الا بإعفاء شارون من منصب وزير الدفاع وأن ينظر رئيس الوزراء بأمر اقالته من وظيفته ، واتهمت الميليشيات اللبنانية بارتكاب المجزرة في نهاية الامر ‍‍.. ‍
انه ايلول الذي يذكر العالم كله بأحداث سبتمبر 2001 ، والذي تضمن تلك الهجمات الانتحارية على برجي مركز التجارة العالمي والبنتاجون ، من قبل تنظيم القاعدة ، والذي راح ضحيتها الاف الابرياء ..
انه ايلول..فكيف اهرب منه ..؟ وهل انا بقادرة على محو هذه الجروح من ذاكرتي اللعينة؟
فها هو ..وبوقاحةٍ يدخل كل الحدائق العامة والخاصة دون ان يعترضه احد ، ليقتحم غرف تلاقح الورود و الاشجار على حد سواء ، فيحاصرها في زاوية مظلمة كئيبة ، حتى يخلع عنها كل ملابسها بنية اغتصابها ، فتغدو سحنتها صفراء كالزعفران !
أصفر..اصفر..اصفر..
كل شيء بات اصفر ضعيفاً حتى النبض !
قتلٌ ودمار في كل مكان ، وبقع الدم تتسع وتتسع لتغدو بركاً تملأها ضغينة البشرية وأنانيتها ..