الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 16 / مايو 13:02

آثار الذكرى ... بقلم: فؤاد خوري


نُشر: 30/08/08 14:26

الماضي، الذي ظلَّ يلازمها، حتّى بعد مرور عشر سنوات على زواجها، ففي كلِّ تصرفٍ يبدر عن ابنتها الشابة، تتذكر نفسها أيام شبابها، حين كانت فتاةً يافعة في ربيع عمرها.
ابنتها، سمر، التي كانت تهوى ومنذ حداثة سنّها الموضة، ودور الأزياء، وكلَّ شيءٍ جديد كان يُثير إعجابها، فتدفعها نفسها لأنْ تعيش في عالمٍ يتخبّط بالموسيقى الصاخبة، ويكتسي من حلل الغرب الأجمل والأشدُّ اغراءً وبهاءً، وكيف لا، وهي ترى الآن أصدقاءها في الجامعة منفتحين على كل شيء، فأضحى كلُّ ما تبتغي أنْ تَنشُدَه  يتحقّق سريعًا، تحصل عليه دون تعبٍ أو مجهود، فلماذا بعد تتمسك بعادات من سبقوها، وهي في إشراقه عمرها وريعان شبابها الثائر أبدًا، المشتاق دومًا لكلِّ صرعةٍ جديدة، الناقم على عادات قديمة، فإنْ اتخذتها مذهبًا ستكون شاذةً بين أصحابها، الذين يواكبون كلَّ جديد، وكل ما هو مثير ينهلون به، فيجعلون الفؤاد في حركة سبّاقة تتسارع دقاته وأصوات التكنولوجيا التي تبحر في كلِّ مكان....
أمّها، إلهام، التي ما عادت تجد وقتًا تتحدث فيه وابنتها، فدومًا سمر مشغولة، بهاتفها الجديد، بجلسات السمر والأصدقاء، وكلُّ هذا كان يثير في نفس الأم خوفًا على ابنتها، التي شعرت أنّها بعيدة عنها، فالعالم المحيط بابنتها يأخذها من أمّها التي أضحت تتمنّى لو تتحادث هي وابنتها، تتناقشان، تصغي لها، تحاورها، لكن..... لم تحظَ الأم حتّى بذلك.
فابنتها تعيش ومع الأجواء المحيطة بها، التي تجعلها سعيدة بحياةٍ غلبت موضة العصر عليها، فالحفلات التي تعّج بالرقص، والشباب الذين تسبح  أنظاره  في شيءٍ يُثير، في أمر يُغري ويجعل الشباب يمتلئ بالنشوة والغبطة، وهي، ألا تندفع اندفاعاتهم؟، وهي من غدت المرآة أمرًا يلازمها دومًا، لتغدو جميلة، أنيقة المظهر، فتثير توقًا بالمعجبين، ولتشبع الثقة الكامنة فيها، الراغبة لها أن تفعل ما يحلو لها، متى تريد، وكيفما تشاء.
 وبين كلِّ هذا، تضيع الأم في قلق يُساورها على ابنتها، على تغيراتٍ استجدّت في حياتها، تخاف أمّها أن تقع يومًا بين فكّي المعصية، ولكن عندما تحاول أن تتفاهم مع ابنتها،يتكشّف ماضيها أمامها، حين كانت فتاةً في سنّها، تذكر كم كانت تريد وتريد، ويثور كلُّ نداءٍ كامنٍ في قلبها، لعلّه يثير حشرجةً، جوًا من الحماس المنبعث منها، لكنّها لم ترَ من أمّها إلاّ حديثًا ملؤُه جدال هجوميّ محتدم، ومحاولة قاسية، حين تلحظ على ابنتها تغييرًا لا يتناسب وتقاليد عصرها، وهي الآن، ومع كلِّ محاولاتها ألاّ تكون، كما كانت أمّها معها، إلاّ أنّها لم تنجح إلاّ أن تكون مثل أمّها، فتذكر معاملتها القاسية لها وهي في مثل عمر ابنتها الآن، فلم تستطع أن تكون مغايرة لِما كانت عليه أمّها، فالذكرى، آهٍ من الذكرى! التي اخترقت أحاسيسها وجعلتها مسلوبة الحسّ، فاقدةً نشوة الحاضر، غارقةً في جوف الماضي..... وتلابيبه.
سمر، وخلال جلسةٍ لها مع أصدقائها في الجامعة، اقترحوا عليها أن تجدَ عملاً فتصبح فتاة تعتمد على نفسها أكثر، تساهم في تحمّل مسؤولية أفعالها والعواقب، فتُعدّ الطريق أمام المستقبل،نالت الفكرة إعجاب سمر، لكن، سرعان ما تحوّل الفرح البادي على محياها إلى حزنٍ ممزوجٍ بالألم، فحين أخبرت والدتها بالموضوع، أبدت أمّها اعتراضًا شديدًا، تمامًا كما اعترضت أمّها في الماضي ، حين طرحت الفكرة عليها أن تعمل سكرتيرة، فلم تلقَ حينها إلاّ صفعةً على خدّها، من قِبل أمّها التي وجدت أنَّ العمل سيسير بابنتها إلى الهاوية، وإلى نقض العادات، الضربة عينها تتلقاها الآن سمر من أمّها على وجهها، حين طرحت عليها فكرة أن تعمل، لكن الفارق أنّه في الماضي حين اقترحت الأم على والدتها فكرة العمل وقوبل اقتراحها بالرفض، أذعنت الابنة لرغبة أمّها أن لا تعمل، أمّا سمر الآن لا تريد أن ترضخ لرأي أمّها، مقتنعةً أنَّ العمل سيعود عليها بالفائدة ويساعدها في التعلّم، فكيف لها أن لا تشعر بأنّها مسؤولة، تشعر أنَّ لها كياناً، خصوصية، ورأياً مستقلاًّ!!
  تماشت الأم وبعد تفكيرٍ طويل مع رغبة ابنتها بأن تعمل، لكنَّ المشاكل زادت بعدها أكثر فأكثر، فلا طريقة لباس سمر تعجبها، ولا مظهرها المزركش بالحضارة الغربية، ولا علب الدخان التي كانت تخبئها سمر تحت سريرها، ففي احد الأيام عندما كانت الأم ترتب سرير ابنتها، رأت علب سجائر، فانزعجت، وحميَ غيظها، فسألت ابنتها عن التبغ، قالت لها سمر: "إنني حرة في كل تصرفاتي، أنا البالغة الراشدة" وبعد وبعد....
  َ  لغة الحوار السلمّية كانت بعيدة عن لغة الأم تجاه ابنتها، فكيف ستكون؟ فلم تكن تعامل ابنتها إلاّ كما لقيت من معاملةٍ في صغرها، أوَ ترضى الذكريات أن تهرب منها، أيعامل قلبها بطريقةٍ غير تلك التي عهد؟!
  فكلُّ النقاشات التي كانت تدور بين سمر وأمّها غالبًا ما كانت تنتهي بسلام، صوت الأم يعلو أكثر، صوتٌ ينادي بالتقوى والرجوع إلى سُبل الأجداد، سُبل العادات التي أضحت شاغلاً يملأ الفراغ لدى بعض البشر، وصوت ينادي بالعولمة التي تغزو مجتمعنا، وتزرع فيه بذورًا ترابها الإثارة، نقْض كل ما هو مألوف، والانفتاح على لغة العصر...
  وبين الصوتين، تعبر ذكرى الأم، فتغلب على الأصوات المتعالية، وتشتد الذكرى إلى أن يكون لها ما تريد، فالأم كما تربّت وكما عوملت، هكذا كانت تعامل.
  في أحد الأيام، والوقت متأخرٌ من الليل، وإذ بالأم تنظر من النافذة فترى ابنتها مع شابٍ صديق لها في الجامعة، فما أن دخلت سمر البيت، حتى بدأت الأسئلة تنهال عليها من كلِّ حدبٍ وصوب، أمّها تسألها "من وكيف وماذا"، فغضبت الأم لمّا رأتها مع شابٍ، فما بال ابنتها لا تأبه لسمعتها، لكنَّ سمر أخبرتها بأنّها لم ترتكب عملاً مشينًا، كلُّ ما هنالك أنّها تحبُ هذا الشاب، وربّما تتزوجه، صرّحت بهذا علنًا أمام أمّها، فأثار كلامها هذا غضب إلهام أمّها، فصفعتها على وجهها، لكنَّ سمر لن تكترث، ستفعل ما يحلو لها، لن تصغي إلى أمّها، إلى أفكارها التي باتت في نظرها، كنظرياتٍ ثابتة....
  بعد كل هذا، يحمل الزمن إلهام أن تزور أمّها التي تسكن في البيت وحيدةً، وقتٌ طويلٌ مَرَّ دون أن تزور بيت أهلها، دومًا كانت تتحدث مع أمّها بالهاتف، ولكنّها الآن تزورها، وإلهام في حيرة من أمرها.
  "لم أنجح يا أمّي أن أعامل إلاّ بنفس الطريقة التي عُوملت بها، مع كلِّ محاولاتي أن لا أكون.....، إلاّ أنني لم استطع إلاّ أن أكون أنتِ، أنتِ يومَ كنتُ أنا شابة، ثائرة، طائشة في عالم الشباب الزاخر بالمتاهات، وابنتي الآن، كما كنتُ أنا، ونالت من الحياة أمًا عاملتها كما عُوملت".
  صرّحت إلهام لأمّها بذلك، ودموعها تسّح مدرارًا على وجهها، أخبرتها أنّها غير مقتنعةٍ بكلِّ تصرفٍ بدرَ منها تجاه ابنتها، ولكنّها لم تقدر.... لم تستطع إلاّ أن تكون تمامًا.... كما أمّها.

مقالات متعلقة