الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 17 / مايو 06:01

محمود الراقد...بقلم: نايف خوري-حيفا


نُشر: 26/08/08 14:18

*لم تنقطع أخبار الشاعر محمد درويش عن الوطن بالرغم من بعده عنه، ولم تنقطع قصائده بفيض المحبة والفكر العميق بالرغم من الألم الذي اعتصر قلبه وقضى عليه. ولم تنقطع اتصالاته مع الأصدقاء والمحبين بالرغم من انقطاعه عنهم في حقبة ما. ولم ينقطع حنينه إلى بلاده وأهله بالرغم من تشرده من البروة ولجوئه إلى بلاد أحلام جديده. فكنت أرى نفسي في محمود وما أنا عليه الآن من حب وحنين وارتباط واتصال وثيق به لتشردي أيضًا من إقرث ولجوئي إلى بلاد أحلام جديدة.
لا يقاس الشاعر بعدد القصائد التي نظمها، ولا يقاس بعدد الدواوين التي أصدرها، ولا يقاس بسعة انتشاره على صفحات وسائل الإعلام، بل يقاس بمستوى أفكاره التي يعبر عنها بهذا الشعر. وبقيمة خبرته وتجربته. وفي هذا استطاع محمود درويش أن يحول كل ما يقوله إلى شعر. تمامًا كالملك الأسطوري ميداس الذي يحول كل ما يلمسه إلى ذهب. فهل يتمكن أي شاعر من ذلك؟ إن بيت القصيد في الشعر هو البيت الرئيسي والمركزي الذي تتمحور عليه القصيدة بأجمعها، ولكن قصائد محمود كلها بيوت قصيد وتتآلف معًا لتصبح معلقات تضاهي ما كتبه شعراء المعلقات على مر العصور.
وإذا كانت إمارة الشعر قد انتقلت بين شعراء القرن الماضي والذي قبله، وتلاشى هذا اللقب بعدئذ، فلماذا لم يجرؤ أي شاعر في أيامنا على حمل هذا اللقب؟ ومن هم الشعراء الذين يستطيعون خلع عباءة الإمارة عليه؟ ومن هو الشاعر الذي يشار إليه بالبنان فيتولى هذه الإمارة الشاغرة؟ هذه الحقيقة يعرفها الشعراء أنفسهم، فلا يجرؤ أحدهم على ادعاء الإمارة إما تواضعًا أو خشية لاعتراض أحد أو نتيجة لنظرة زملائه إليه والتي لا تكرس أحدًا عليهم، لمواقفهم من النظم الاجتماعية أو السياسية كما هو الحال مع الانتخابات البلدية أو البرلمانية أو الحزبية أو الرئاسية. ولكن شاعرنا محمود استطاع أن يجمع بشعره كل هذا التناقض وهذا العبث وهذا المستحيل لا لينتخبوه أميرًا أو ليخلعوا عليه عباءة الإمارة، بل ليصبح سيد الكلمة وسيد الفكرة وسيد القصيدة وهذا أهم بكثير من اللقب المناقض لما يؤمن به محمود. ولكن هناك من أطلق عليه لقب شاعر الثورة الفلسطينية أو شاعر فلسطين وغيرها من الألقاب، لكني أعتقد بأن شعره ذهب إلى ما بعد الثورة التي لا زالت حية، وإلى أبعد من فلسطين التي لا زالت بدون حدود.
لا تعترف المسيحية بالموت، كما لا تعترف به ديانات أخرى. فالموت في العرف الهندوسي مثلاً هو تحول الروح من حياة إلى حياة، فالروح تنتقل من جسد هذا الرجل إلى جسد ذلك الولد، أو تلك المرأة، وحتى إلى ذلك الحيوان أو تلك الحشرة. وفي العرف البوذي لا تتلاشى الروح بالموت بل تهيم لتلقى حسابها على أثامها أو حسناتها، فتتحول إلى روح منتقمة أو روح برئية وسعيدة. وفي المسيحية يطلقون على الموت كلمة رقاد، انطلاقًا مما حدث للسيد المسيح الذي قام وكأنه رقد لثلاثة أيام. وهكذا يطلقون على موت السيدة العذراء مريم بأنه رقاد وعلى سائر القديسين والبشر، فهو رقاد لأن الموت يعتبر فناء، ولا يمكن أن تفنى الروح المؤمنة. وهنا لا بد من اعتبار موت محمود درويش على أنه رقاد وليس فناء، ويجب التعامل معه على هذا النحو، فهو لم يمت ولم يفن بل سيبقى حيًا فينا، قائمًا بيننا، حاضرًا معنا في مراحل حياته وحضوره وغيابه الأبدي.

مقالات متعلقة