الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 28 / أبريل 18:02

المثقف الحقيقي... صادق في اعلاء جلال العقل حتى العظم - بقلم: د.عمر سعيد

كل العرب
نُشر: 10/12/16 01:06,  حُتلن: 12:02

د.عمر سعيد في مقاله:

المفكر الحقيقي صادق جلال العظم، الذي تربت أجيال كاملة على أدبياته الثورية من النقد الذاتي بعد الهزيمة

ليس مهما هنا موافقتنا أو معارضتنا لكافة آرائه واستنتاجاته إنما الأهم التزامه بمنهج بحثي علمي متماسك مكنه من تسلق قمم عسيرة ليطل منها على مواقع كانت مستورة على الاستدلال

من المخزي أن تتعرض هذه القامة الثقافية الشامخة وهو على سرير الفراق لفيض لا ينتهي من حملات التشفي والاسفاف والكيدية, نظرا لمواقفه المعارضة للنظام 

تعكس حيوية الفكر وفعالية البيئة الثقافية التي ينشط في كنفها هؤلاء. لهذا وكما هو الحال في التشخيص الطبي التفريقي القادر على التعرف على حقيقة مرض محدد يتشارك مع غيره من الأمراض المحتملة

تماما كما في عز شبابه وقمة اندفاعه وعطائه، أي حينما اعتبره الكثيرون محركا عالي الجودة في تقليب المياه الآسنة، ومثيرا لعواصف النقد المشحون والمنازلات الفكرية الصارمة, هكذا حاله اليوم وهو يتوسد فراش الموت. انه المفكر الحقيقي صادق جلال العظم، الذي تربت أجيال كاملة على أدبياته الثورية من النقد الذاتي بعد الهزيمة،  ونقد الفكر الديني, ودفاعا عن المادية والتاريخ، مرورا بالاستشراق معكوسا... ووصولا لذهنية التحريم، واستلهمت من معارفه وحججه وجرأته ضرورات التغيير والانتفاض على ترسبات الثقافة السائدة والبنى الاجتماعية التقليدية. ليس مهما هنا موافقتنا أو معارضتنا لكافة آرائه واستنتاجاته، إنما الأهم التزامه بمنهج بحثي علمي متماسك مكنه من تسلق قمم عسيرة, ليطل منها على مواقع كانت مستورة على الاستدلال. لم يكن في قاموسه امر مفهوم ضمنا, أو مقدس يأبى على التفكيك والنقد, ولم ينتظر رضى السلطان عنه وافكاره، فيما هاجسه الأساس بقي منصبا على استجلاء الحقائق, وتحديد معوقات النهضة, وطرح البدائل التي تؤمن النصر للامة وتجاوز واقع تعاستها. صادق جلال العظم, والذي أطلق جدلا وحراكا فكريا هائلا في حينه, وأودت به الى مهالك الملاحقة الشعبوية والمحاكمات المتعاقبة.. لم يكترث بتاتا لتبعات وأثمان مواقفه, وظل لصيقا بمدرسته العقلانية اليسارية.

وخلافا لغالبية رفاقه من المفكرين الكبار، لم يقتحم سؤال النهضة وميدان نقد التراث الفكري حذو النعل بالنعل كما فعل زملاؤه, أي بالولوج لبنيته الداخلية من بوابة الموروث الفكري العربي الاسلامي برموزه وفضائه الديني والتاريخي والاجتماعي, وانما ظل متعلقا بشعار "قتل القديم نقدا وفكرا", انطلاقا من نظرته الماركسية الاممية المتجددة المتجاوزة لخصوصية موروثنا الثقافية. لعل هذا التفرد المنهجي بالذات, هو ما جعل من إسهاماته المعرفية, في العقدين الأخيرين, ذات طبيعة نخبوية وأبقاها في هامش السياق العام للمشروع النهضوي المتلاطم. وقد تكون هذه الخاصية أيضا هي من اجتذبت نحوه نيران الخصوم من التيارات الاسلامية, وكذلك النيران الصديقة لبعض المثقفين المغرورين ممن اشتعلت في صدورهم نار الغيرة والتنافس الهدام, حيث شهدنا كيف قامت الدنيا ولم تقعد, عندما تناول صاحبنا كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد, بالنقد والتقييم. من المحزن، بل من المخزي أن تتعرض هذه القامة الثقافية الشامخة، وهو على سرير الفراق, لفيض لا ينتهي من حملات التشفي والاسفاف والكيدية, نظرا لمواقفه المعارضة للنظام وقراءته المغايرة للمحنة السورية, والتي كما يبدو, شكلت سببا كافيا لزندقته سياسيا, واعتباره خارجا عن اجماع القبيلة القومية واليسارية, استوجبت حكم الاقصاء والذبح. أقول ذلك رغم تخالفي مع عناصر هامة في رؤيته الاقليمية وقراءته للحرب الأهلية ولمشهد الدمار الشامل في سوريا, دون أن يحجب ذلك عني حقيقة هذا المفكر المبدع وأفضاله وصولاته التنويرية العميقة, ونموذجيته الأخلاقية في حسن الاصغاء والمحاورة, وبتنويهه الايجابي حتى بمعارضيه، وبيده البيضاء وشخصيته المتواضعة ...

تلك الصفات الرفيعة التي تخلو من نفوس هؤلاء المزايدين الصغار. وقد يتساءل القارئ لماذا اصر على نعته حصرا بالمثقف الحقيقي, بينما يمكن الاكتفاء بوصفه مفكرا, فذلك لأن المثقف الحقيقي هو الذي ينفعل ويتفاعل بإيجابية مع الهم العام, ويساهم في إنتاج المعرفة وإعلاء شأن العقل, وهو ينشد الحقيقة لذاتها, أي لكونها تدفع وعينا للتعامل العقلاني مع شؤون واقعنا بما يضمن تجاوز رتابته وتحدياته وعقده.. دون أن يرجو من ورائها أية غاية نفعية أو مادية.

ولكي اوضح مقصدي من وراء اصراري على ذلك التعريف, لا بد لنا من التفريق بين أنماط المثقفين الوطنيين التي قد تغيب عن أعين الكثيرين. لقد رسخ في الذهن المجتمعي لحالتنا العربية نوعان من المثقفين: الأول مثقف سلطوي متعاون ومدافع عن السلطة الغاشمة يجيد استخدام "عدته المهنية" الماضية في التمويه والتحايل طورا, وافساد الثقافة واشاعة الخنوع طورا اخر, سعيا لتحقيق وتأمين مكاسب انتفاعية. وبالمقابل هناك المثقف المعارض الواضح في ميوله ومواقفه الاجتماعية والسياسية والوطنية, ولا يألو جهدا في التحريض وممارسة النقد اللاذع لتعسف السلطة وأجهزتها, وتراه منحازا بالكامل لجماهيره وأهدافها. ولأن الفكر لا يمارس فعاليته بمعزل كامل عن تأثيرات محيطه السياسية وتعسفها, وخاصة في ظل سطوة شبه مطلقة للثقافة الحزبية وأجهزة الدولة الأمنية, واستحواذ التحزب الإيديولوجي على الممارسة النقدية, فقد برز المثقف الحزبي الكادري على المسرح الثقافي, كنموذج رئيسي بديلا عن المثقف النقدي الحقيقي. وهنا مربط الفرس, حيث لم يعد مقبولا علينا تفسير الاختلافات والخلافات الناشئة في معسكر المثقفين الوطنيين على أنها مجرد تعارضات اجتهادية مشروعة, تعكس حيوية الفكر وفعالية البيئة الثقافية التي ينشط في كنفها هؤلاء. لهذا, وكما هو الحال في التشخيص الطبي التفريقي القادر على التعرف على حقيقة مرض محدد يتشارك مع غيره من الأمراض المحتملة بنفس الأعراض, ينبغي لنا أن نميز بين مستويين اثنين لمثقفي المعارضة الوطنيين: فالأول، ورغم يقظته الفكرية ودفعه لتحدي السلطة واسهامه في التعبئة الجماهيرية والتنوير, الا انه يتذوت في عمق وعيه الداخلي نفس المقولات السلطوية الثابتة حول أحقيتها, واحترام تراتبيتها وهيبتها ويتقاطع مع منطقها العام من حيث اعتباره لثوابته ورؤيته وكأنها حقائق مطلقة.

ممثلو هذا النمط غالبا ما يحسبون على المثقف الكادري صاحب الخطاب القطعي المنغلق, مما قد يجعله, ودونما دراية أو قصد, مثقفا منتجا للخطاب السلطوي, وفقا لوصف المفكر الراحل نصر حامد ابو زيد. أما المستوى الثاني من المثقف المعارض, فهو منتج للمعرفة, وينشدها لذاتها بعيدا عن التوظيف التبريري والنفعي, حيث خطابه يمتاز بالانفتاح والقابلية العالية للمراجعة والتجدد. هذا التفريق في أنماط المثقف المعارض الذي أوردناه, قد يسعفنا في فهم أسباب وآليات تحول المثقف الوطني المعارض, وبتلك السهولة أحيانا, الى الموقع المضاد لما كان يروج له, ويكشف لنا كيف يمكن له أن ينخرط فعليا في ممارسة سياسة القمع والطائفية أو التنظير والدفاع عنها. من هذه الزاوية واستنادا لذاك التوصيف, فلا شك أن صادق جلال العظم ينتمي لفئة المثقفين الحقيقيين, بل هو يتربع في طليعتهم, ولو كره الكارهون. وسيبقى بنظرنا, نحن الذين تنقحت قريحتنا السياسية والوطنية والفكرية بتأثير بائن من آرائه, مفكرا عملاقا جريئا, وأحد منارات الثقافة النقدية العلمية التي نعتز بها... وله نردد على نسق شاعرنا مظفر النواب: ان كنت حيا في قبر, أو حيا في سجن, فأنت بيننا ثورة عارمة.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة