الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 04 / مايو 10:01

كلمة وداع للرمز محمود درويش

العرب
نُشر: 11/08/08 10:56

عندما أرسلت لي قبلتك الأخيرة يا محمود أخفيت عني أنها قبلة الوداع. إعتقدتُ أنها إشارة أخرى من إشاراتك المليون بأنك مسافر إلى إحدى مدن هذا العالم الذي صغر على حجم قصائدك، وستعود لتلهب مشاعرنا من جديد بأمسية هنا وجلسة هناك، وتتركنا دائماً في حيرة من أمرنا وتساؤل : ما الذي يخبئه في جاروره من مقطوعات ديوان جديد يا ترى ؟.
ولكنك على خلاف سفرياتك الماضية هذه المرة لم تعد، فاحتفظت بالقبلة في جيبي كآخر تذكار منك. 
قبلتك سأطبعها على صفحة كل حجر في الجليل والمثلث والنقب والضفة والقطاع، وسأمررها على شوارع القدس وسورها العتيق حجراً حجراً كعاشق يغرق محبوبته بالقبل ليؤكد لها مدى هذا الحب. 
قبلتك في جيبي، سأضعها على جبين كل طفل فلسطيني هو امتداد لأجيال كبرت على كلماتك التي طالما بثت فينا روح المقاومة والصمود، كل طفل من غزة حتى نابلس، من يافا حتى عكا، مروراً بأم الفحم حتى الطيبة وراهط ورجوعاً إلى بيت لحم ورام الله. فكل طفل في فلسطين هو ابن لمحمود درويش.



قبلتك سأرسمها على يدي كل أم ارتعش قلبها وهي تسمعك تقول: أحن إلى خبز أمي، فشعرت بأنها تصل إلى درجة القداسة وهي تتلقى قصيدتك هذه في عيد الأم، يضاهي جمالها ويفوق حلي الماس والذهب. 
قبلتك في جيبي يا محمود، أسير بها طول البلاد وعرضها، أنثرها على أشجار اللوز الذي طالما أحببته، والزيتون الذي غازلته، والسنديان الذي ازداد روعة بمجرد أن نطقت اسمه. قبلتك أنثرها في مياه كل جدول وشلال، ثم أبعثرها في السهول والوديان والجبال. 
تساءلت في قصيدتك الأخيرة " لاعب النرد " مَن أنا... فتأكد واعلم علم اليقين انك أنت نحن، ونحن أنت، ولو سألت أي عابر سبيل في وطننا العربي الممتد الواسع مَن هو محمود درويش لأجابك: درويش هو أنا... 
أنت الحجر الذي يُلقى بالماء ليشكّل دوائر دوائر لتصحو الأسماك من سباتها العميق وتبدأ بالتفكير بأن تُحدث التغيير، وكم من تغيير قدناه وأحدثناه بفعل الحجر الذي ألقيته أنت يا درويش. 
أنت الناي التي نعزف عليها ألحاننا الحزينة، وكم نحن شعب شرب الحزن حتى الثمالة والإدمان، وفي لعبة الربح والخسارة أنت دوماً الرابح حتى لو كان كل العالم خاسرين، لقد ربحت حبنا لك على مر السنين. 
أنت الأبجدية التي نعلمها لأبنائنا قبل أن يبدؤوا بتعلم الأبجدية، أنت فنجان البابونج الساخن الذي يشفينا من مرض اليأس وينفث فينا روح الأمل. 
أنت قصص حبنا والروايات التي قرأناها لنتعلم فنون الغرام، فزرعت فينا أقدس وأسمى أنواع الحب وأفهمتنا بكلماتك انه من سمات الشجعان. 
أنت بنظرنا شجرة زيتون ثابتة متماسكة تأبى أن تطالها يد تحاول اقتلاعها من الأرض، وأنت بنظرنا عنب الدالية الشامخة المتمايلة التي تتباهى بجمال أوراقها تترنح من هبة كل نسيم عليل يحمل رائحة بلادي. 
أنت القنديل الذي نهتدي به في الظلام الحالك تدلنا من أين المسار وبأي اتجاه تكون الطريق، وعندما أطلت علينا قصيدتك هذه علقناها على كل جدار لنتحدى بها سخافات هذا الزمن وسطحية الفنون والآداب المزيفة، وبمجرد أن التصقت بالحائط حتى شع نورها ولمعت منها الكلمات. 
أنت من يحرك أحاسيسنا في عالم يفتقر للأحاسيس، وبتعابيرك نصحو من غيبوبتنا بعواصفك الرعدية، ببرقك وصاعقتك، كأنما تقول لنا " اصحوا يا بشر " !. 
أنت من اقنعتنا بأن الحياة هنا ممكنة رغم كل جراحاتها وصعابها وعقباتها وعثراتها، فصقلت منا شعباً يؤمن بالتحدي والصمود، يأبى الركوع والخنوع. أنت لوّنت الحلم في ليالينا، وأنت استفززت فينا الذاكرة لكي لا ننسى أبدا أرضنا الخضراء ولا التلة ولا المغطس، ونبعاً يفيض حباً وربوعاً رائحتها كالعنبر. 
قبلتك ما زالت في جيبي يا محمود، فلماذا قررت الرحيل باكراً وأنت من خطط الأزمنة والمواعيد ؟ ألم تتمكن من تأجيل موعد السفر حتى لا تتركنا مع شعور من اليُتم ؟ من سيشكو همومنا للأفق بعد اليوم ومن سيكتب مذكراتنا لتحفظها صفحات التاريخ ؟ 
قبلتك قبلة صمود وتحدٍ وأمل وحب ووفاء ووطن. أمد يدي إلى جيبي، أشد عليها بأصابعي، إنها هديتك الأخيرة لي، سآخذها معي إلى كل مكان وأعدك أنني قبل أن أموت والحق بك سوف أزرعها لتنبت منها دولة فلسطين.

مقالات متعلقة