الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 09 / مايو 08:02

مقتلة نيس وأحوال هذا العالم/ بقلم: حازم صاغية

كل العرب
نُشر: 16/07/16 09:34,  حُتلن: 09:35

حازم صاغية في مقاله:

مقتلة نيس الأخيرة حيث يكمل الإرهاب ما يفعله الجشع من تحويل النظر عن الإصلاحات السياسية والاقتصادية المُلحّة

اليونان تصارع إفلاسها وتعيش إيطاليا إفلاسًا مقنّعًا بينما يعجز بلد كإسبانيا عن الإتيان بائتلاف أكثري تنهض عليه حكومة جديدة

في أوروبا اليوم، يكثر القائلون أنّ زمننا يكرّر الثلاثينات التي سبقت الحرب العالميّة الثانية. فالحركات المتطرّفة، الشعبوية منها والقومية والفاشية، تقوى ويشتدّ عودها. وإذا ما قُيّض لدونالد ترامب أن يصل إلى البيت الأبيض، فهذا ما سيجعل الأطلسي في حيرة يطوقه التطرف على أنواعه، والخطر على البشر وعلى التمدّن في آن. وفي هذا السياق، تظهر دعوات إلى إنشاء «جبهات شعبية» و «جبهات وطنية» تقاوم المد المتطرف وتحاول الحدّ من آثاره، فيما يأتي «تقرير تشيلكوت» ليوثّق الانحطاط الذي أصاب بيئة السياسيين في البلدان الديموقراطية على مدى عقود ثلاثة.

لقد عاد باحثون في عدادهم إمي شوا في كتابها «عالم على النار» (2002) إلى نهاية الحرب الباردة، أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، كنقطة انطلاق. فحينذاك سقطت كتلة الدول السوفياتية، بحزبها الواحد وعبوديتها المُحدَثَة، ليجد العالم نفسه أمام تحوّل مزدوج:

من جهة، انطلقت موجات ديموقراطية متعاقبة شملت مناطق من المعمورة، كأفريقيا وأميركا اللاتينية والأقصى الآسيوي، كانت خاضعة لهذا النمط من الاستبداد أو لذاك.

ومن جهة أخرى، وفي ظلال العولمة، وسط انهيار الاستقطاب الكوني الذي ثبّت حدود الدول بين الخمسينات والتسعينات، وجّهت النيوليبرالية ضربة قاصمة إلى الليبرالية الكلاسيكية ودولتها. وهي، بعد إلحاقها الهزيمة بالشيوعية، تقدّمت لتهزم المسألة الاجتماعية وتقدمها بوصفها لزوم ما لا يلزم. وهذا ما خالف تمامًا نهاية الحرب العالمية الثانية التي فتحت باب الاستقلالات في «العالم الثالث» وأنشأت دولة الرفاه في «العالم الأول».

هكذا تحوّل التمكين الديموقراطي المستجدّ، بسبب ترافقه مع تحطيم الدولة وتجفيف التقديمات الاجتماعية وتوسّع جيوب الفقر والإزاحة إلى خارج العملية الاقتصادية، تمكينًا للشعبوية الهائجة التي وجدت صوتها في خليط من قوى قومية ودينية أو إثنية. وحين حلّت أزمة 2008 المالية، بدأت التناقضات الحادة بالظهور حتى في البلدان الديموقراطية، المتقدمة والثرية، خصوصًا أن الناس باتوا مطالبين بالتكفير عن ذنب ارتكبته المصارف. والحريةُ حين تقضم العدالةَ في مجتمع ديموقراطي، فإنها تصبغ حريات الجموع المتضررة من نقص العدالة بغضب على الحرية نفسها، وباحتمال قضمها هي الأخرى.

وفي موازاة تهديدات كالتوظيف السياسي والغريزي الواسع للنزوح الكثيف، واحتمال انتخاب ترامب في أميركا ومارين لوبن في فرنسا، أو إشارات بالغة الإقلاق كنتيجة الاستفتاء البريطاني أو الانتخابات الرئاسية النمسوية التي سيعاد إجراؤها بما قد يفيد اليمين المتطرف، أو العنف العرقي والبوليسي الذي تستعرضه المدن الأميركية، وآخرها دالاس، تصارع اليونان إفلاسها، وتعيش إيطاليا إفلاسًا مقنّعًا، بينما يعجز بلد كإسبانيا عن الإتيان بائتلاف أكثري تنهض عليه حكومة جديدة.

واقع الحال أن إحساسًا ما بالخطر بدأ يضرب البيئة السياسية في بعض البلدان المعنية. هكذا، مثلًا، رأينا هيلاري كلينتون تتبنّى الكثير من البنود الاجتماعية المتقدمة في برنامج بيرني ساندرز. ومنذ اختيارها لقيادة المحافظين ورئاسة الحكومة البريطانية، لم تتوقّف تيريزا ماي عن وصف الضعفاء والفقراء بأنهم أولويتها! فحين شكّلت حكومتها، استبعدت وزير الخزانة ورمز التقشف جورج أوزبورن (مع أنها جاءت ببوريس جونسون للخارجية).

وهذا بالطبع لا يكفي، إلا أن رفع الدولة في مقابل الهويات الجزئية، وإعادة الاعتبار للمسألة الاجتماعية، لا بد من بادئ يبدأهما، وإلا ارتسم الانحطاط والاحتراب في أفق العالم كلّه. وهذا تحديدًا ما أعادت التذكير به مقتلة نيس الأخيرة، حيث يكمل الإرهاب ما يفعله الجشع من تحويل النظر عن الإصلاحات السياسية والاقتصادية المُلحّة. فهذه الأخيرة هي التي تستطيع وحدها أن تبرر إجراءات أمنية وتشريعات قانونية صارمة ومطلوبة ضد الإرهاب تحمي المواطنين بمقدار ما تحدّ من استفادة القوى المتطرفة.

أمّا في ما يعني «العالم الثالث»، وبلداننا العربية خصوصًا، فالأمر أعقد على أيّ حال، في ظل الافتقار إلى مؤسسات تمتص النزاعات، وقادة لا يملكون حلًا لأيّ من تلك النزاعات سوى الوحشية العارية.

نقلا عن الحياة

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net
 

مقالات متعلقة