الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الثلاثاء 07 / مايو 21:01

تيران وصنافير... التفاوض المقلوب/ بقلم: خليل العناني

كل العرب
نُشر: 28/06/16 08:43,  حُتلن: 08:45

خليل العناني في مقاله:

منذ بداية الأزمة، سعى النظام، بجدية، إلى استبعاد الطرف الآخر في المسألة من الصورة تماماً، وهو السعودية، واستبداله بطرف آخر، وهو الشعب

يبدو الأمر كما لو أن النظام يدير معركة الجزيرتين نيابة عن الطرف الآخر في المسألة، وكأن ذلك أحد شروط التنازل عنهما في مقابل ما تم وعده به

لم يكن غريباً أن نرى مواطنين مصريين يرفعون العلم السعودي في تظاهرةٍ مؤيدة للتخلي عن الجزيرتين، في حين تم اعتقال كل من يرفع صوته، ويقول إنهما مصريتان

يصرّ النظام ورجاله على خلط المفاهيم الراسخة وقلب معانيها، لتبرير أفعالهم. لذا، وبمعاييره المقلوبة، يصبح التفريط في الأرض "عملاً وطنياً"، والدفاع عنها "خيانة"، تماماً مثلما أصبح الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان "رفاهيةً" لا تليق بالمجتمع المصري

تضرب مسألة جزيرتي تيران وصنافير منطق النظام الحالي في مصر في مقتل. ليس فقط لجهة تعرية ادعاءاته الزائفة بالوطنية والكرامة وتفريغها، بعد التفريط في التراب الوطني، وإنما لكيفية إدارته المعركة السياسية والإعلامية لها. فمنذ بداية الأزمة، سعى النظام، بجدية، إلى استبعاد الطرف الآخر في المسألة من الصورة تماماً، وهو السعودية، واستبداله بطرف آخر، وهو الشعب. يختصم النظام شعبه، ويا للمفارقة، لأنه يطالب بالحفاظ على قطعةٍ من الوطن، ولا يختصم من يدّعي ملكية لها من دون تقديم دليل على ذلك. في حين وصل الأمر إلى تبني النظام، ورجاله، مقولاتٍ، لو أخذت بجدية، لأوقعتهم تحت طائلة القانون، ودفعت بهم إلى السجون، بحسب نصوص الدستور الحالي.

ويبدو الأمر كما لو أن النظام يدير معركة الجزيرتين نيابة عن الطرف الآخر في المسألة، وكأن ذلك أحد شروط التنازل عنهما في مقابل ما تم وعده به. لذا، لم يكن غريباً أن نرى مواطنين مصريين يرفعون العلم السعودي في تظاهرةٍ مؤيدة للتخلي عن الجزيرتين، في حين تم اعتقال كل من يرفع صوته، ويقول إنهما مصريتان. ولم يكن غريباً أيضاً أن تنطلق أبواق النظام، لكي تنهش وتهاجم كل من يرفضون التفريط في الأرض، وتصفهم بالتآمر والخيانة.

وحين جاءت الفرصة لهذا النظام، كي يصحح خطأه التاريخي، وذلك بعد الحكم القضائي الذي أثبت، أخيراً، بالأدلة والبراهين، ملكية مصر الجزيرتين، فرّط فيها بشكلٍ يؤكد كل الشكوك التي تدور حول الثمن الذي تم الحصول عليه في مقابل ذلك. كما آثر النظام المضي في سيناريو الانتحار الذاتي، بشكلٍ يثير التأمل والحيرة. وكان في وسعه التذرع باستقلال القضاء، مثلما يفعل دائماً، من أجل حفظ ماء وجهه، لكنه اتخذ الطريق المعاكس، فقد طعنت الحكومة على الحكم القضائي التاريخي، ووقف ممثلها، من دون خجل، ليقول إن بلاده كانت تحتل الجزيرتين، في مشهدٍ لن يمحوه التاريخ، ولن يسقط من ذاكرة الأجيال الحالية.

ليس جديداً أن تستخدم الأنظمة السلطوية كل أنواع الشعارات، من أجل تبرير سلطويتها وإقناع جمهورها بأنها الأحق بالحكم، بيد أن الجديد هو أن تمارس هذه الأنظمة كل أنواع السلوك التي تبدو أبعد ما تكون عن هذه الشعارات قولاً وفعلاً. ما يعكس ليس فقط السقوط الأخلاقي والقيمي لهذه الأنظمة. ولكن، أيضا قدرتها على استخدام الشعارات نفسها لتحقيق أهدافٍ متناقضة. وهي شعاراتٌ لا تخلو من الكذب والخداع، وكأنها في ذلك تتبع وصية ميكافيلي للأمير أن لا يكفّ عن الكذب والخداع، حتى يضمن بقاءه في السلطة.


وتكمن مشكلة النظام الحالي، وكما سجلناها سابقاً، في محاولته محو أي محاولةٍ للتفكير العقلاني والمنطقي، ودفع الناس إلى القبول بمنطقه ورؤيته الأمور. وهو أمر متكرّر، وأصبح بمثابة خط استراتيجي لهذا النظام الذي نسي، أو تناسى، أنه جاء إلى السلطة تحت ادعاءات الخوف من تفريط سلفه، محمد مرسي، في الأرض (هل نسيتم أكاذيب بيع الأهرامات وقناة السويس والتفريط في حلايب وشلاتين؟). كما نسي هذا النظام أنه يحاكم العشرات، ظلماً، بتهم "التآمر" و"الخيانة العظمى"، في وقتٍ يفرّط فيه في تراب الوطن. بل الكارثة أن يبرّر رجال النظام جريمة التنازل عن الجزيرتين، ويا للمفارقة، باعتبارها فعلاً أخلاقياً بالتذرع بقاعدة "رد الأمانات إلى أصحابها". يحاول النظام الحالي أن يقنعنا بنزاهة منطقه، ورجاحة عقله، في وقتٍ يمارس كل ما هو عكس ذلك. أليس من الأمانة وقف إزهاق الأرواح في السجون والمعتقلات؟ أليس من الأمانة الإفراج عن الشباب والشيوخ والنساء والأطفال وإعادتهم إلى أهليهم وذويهم؟ أليس من الأمانة رد ملايين الدولارات التي نُهبت من جيوب الشعب، من أجل مشاريع وهمية، مثل مشروع تفريعة قناة السويس؟ أليس من الأمانة إعادة الحقوق إلى أصحابها، مثلما هي الحال مع المستشار هشام جنينة وابنته اللذين تم فصلهما من وظيفتهما من دون وجه حق؟ أليس من الشرف والأمانة وقف الاغتيال المعنوي والشخصي للمخالفين في الرأي؟ أليس من الأمانة إعادة من تم تهجيرهم من بيوتهم وأرضهم ومزارعهم؟ أليس من الأمانة الحفاظ على شريان الحياة لمصر والمصريين، والذي تم التفريط فيه بسذاجة منقطعة النظير، بافتراض حسن النية؟ أليس من الأمانة التخلي عن اغتصاب السلطة ورد الأمر إلى الشعب، صاحب الأمانة، لكي يقرر مصيره بحرية؟

يصرّ النظام ورجاله على خلط المفاهيم الراسخة وقلب معانيها، لتبرير أفعالهم. لذا، وبمعاييره المقلوبة، يصبح التفريط في الأرض "عملاً وطنياً"، والدفاع عنها "خيانة"، تماماً مثلما أصبح الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان "رفاهيةً" لا تليق بالمجتمع المصري، والدفاع عن الثورة "فوضى"، والانعتاق من الاستبداد "تآمراً"، والتخلص من القمع "جريمة"، والرغبة في الديمقراطية وحكم الشعب "هرطقةً"، ورفض حكم العسكر "مؤامرةً"...إلخ. يريد النظام أن يصّك قاموساً جديداً من وحي أفعاله، ويفرضه على الناس جبراً، كي لا تبدو أفعاله كأنها نشاز أو مخالفةٌ لما هو مستقر وثابت. يريد للجميع أن يفكّر مثله، ويتحدّث مثله، ويخدع مثله، ويفرّط مثله، حتى يصبح الجميع سواسية، وأن يبدو كأنه نظام سوّي، وغيره هم المجانين. 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net 

مقالات متعلقة