الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 10 / مايو 10:01

كأس أمم أوروبا وترسبات الصّراعات القوميّة / بقلم: طوني باسيلا

كل العرب
نُشر: 18/06/16 17:19,  حُتلن: 07:46

طوني باسيلا في مقاله:

على الرغم من تطبيق العولمة وعلى الرغم من محاولات تذويب الحدود الجغرافية والحدود الحضارية بين الأمم، إلا أنّ هناك محطات تلتقي فيها تلك الأمم وتبرز حينها الصدامات ولا سيما الفوارق القومية

بإمكاننا أن نحيل إلى عدة أمثلة من المباريات والأحداث التي جرت حتى الآن في الأسبوع الأخير. هذه الأمثلة توحي بأن النفور والفجوات الحضارية وحتى الكراهية التي نتجت عن ترسباتٍ سابق

كيف يمكن إذاً للصراعات السوداوية بين الروس والإنكليز عبر القرون الغابرة أن تختفي بواسطة مهندسي العولمة وحكام الأرض؟

العديد من التحركات السياسية والعسكرية الشاحنة حصلت بين الأوروبيين قبل تنهيدة من الزمن، واليوم نرى تلك الفئات القومية تتنافس ضمن دائرة رياضية في بلاد شارلمان

يطول الحديث في هذا الموضوع ويمتد، وقد يستوجب بحثاً مستفيضاً في المستقبل، ولكن حتى ذلك الحين ننتظر ما ستؤول إليه مجريات المباريات والأسابيع القادمة

منذ أسبوع عاد مهرجان الأمم الأوروبية لكرة القدم ليحل ضيفاً على عشاق الرياضة، تلك الرياضة الأكثر شعبية في جميع أرجاء المعمورة. في كل مرة أشاهد فيها تلك الألعاب بين أبطال الكرة، ممثلي الأمم، على العشب الأخضر، أتساءل: "هل هناك تأثيرات للصراعات الدامية بين أمم أوروبا على نفوس لاعبي وجماهير الأمم؟ خاصةً أن القرن العشرين كان حافلاً بالحروب وسفك الدماء، منها الحرب العظمى والحرب العالمية الثانية والحرب الباردة ..أو الساخنة، وغيرها من حروب حصدت أرواح الملايين، غير الذين قضوا في الوباء و آخرين توفوا بالجوع.

على الرغم من تطبيق العولمة وعلى الرغم من محاولات تذويب الحدود الجغرافية والحدود الحضارية بين الأمم، إلا أنّ هناك محطات تلتقي فيها تلك الأمم وتبرز حينها الصدامات ولا سيما الفوارق القومية، مذكرةً إيانا بأن الواقع حاضراً ومستعداً لاستقبال مرارة الماضي بذاكرته ووجدانه.

كي نستوضح الموضوع بإمكاننا أن نحيل إلى عدة أمثلة من المباريات والأحداث التي جرت حتى الآن في الأسبوع الأخير. هذه الأمثلة توحي بأن النفور والفجوات الحضارية وحتى الكراهية التي نتجت عن ترسباتٍ سابقة ما زالت حاضرة بين الجماهير الأوروبية، وتثبت أيضاً بأن الحياة كينونة وسيرورة واحدة لا يمكن أن تتجزأ. كيف يمكن إذاً للصراعات السوداوية بين الروس والإنكليز عبر القرون الغابرة أن تختفي بواسطة مهندسي العولمة وحكام الأرض؟ عندما حاول الروس، في الماضي، الوصول إلى المياه الدافئة وبسط النفوذ داخل أراضي الدولة العثمانية التي لقبت أنذاك بالرجل المريض، تصدى لهم الإنكليز إما بقوة السلاح أو بواسطة إستراتيجيات دبلوماسية وطرائق تفننية مختلفة. وعندما هبت الثورة البلشفية عام 1917، برزت عندها الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين روسيا الاشتراكية والغرب الرأسمالي، وعلى رأسه إنكلترا ومن ثم خليفتها الولايات المتحدة. وما إن ضاق السلام على نفوس البشر ونشبت الحرب العالمية الثانية في التاسع من ثلاثينات القرن الماضي، عندها برز الشك وانعدمت الثقة بين الطرفين. بعد انتهاء الحرب التي حصدت أكثر من 55 مليون شخص من كافة أصقاع البسيطة، هناك لوحت الحرب الباردة بين الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي. تلك الحرب التي ما زالت تطل علينا، نحن شعوب الإستيراد، بألوانها وموجاتها الضارية والتي تتناسب مع احتياجات الدول العظمى. لذلك، ليس من المستغرب أن نشاهد الشجارات بعد لعبة إنكلترا وروسيا أو أن نرى حماسة الجماهير في مهرجان كأس الأمم لتشتعل عند غناء النشيد الوطني قبل كل منافسة.

في هذا السياق أريد أن أقف عند بلجيكا التي وقفت قبل عشرات السنوات فقط أمام الذئاب النازية الثقيلة المهلكة وراحت نساؤها تنوح وتنتحب وأطفالها تتشرد بدون غطاء، وأما شبابها فقد وقفت كالحصون المنيعة، منتصبة ضابطة بهدف التحرر من أبشع وأشرس أنواع الأنظمة التوتاليتارية في خريفٍ لم يُبقِ للحرية سبيلا.

غابت سنوات الظلام وفُتحت الحدود بين ألمانيا وبلجيكا وبنيت المشاريع المشتركة مع الأمل للارتقاء من الحضيض إلى السمو المثالي. هذه الخطوات الحيثية بين البلدين المتجاورين رافقتها برامج عمل جماهيرية كانت تحاول بناء جسور للتواصل، كبرامج العمل التي طبقها الألمان والفرنسيون بهدف اقتلاع مرارة الماضي وزرع بذور التآخي. هذه الخطوات التي يقف من ورائها أصحاب الحكم والتي تحاول نقل الأمم الأوروبية من عواصف التجارب إلى الميناء الهادئ، هل ستنجح في الحفاظ على جسور المحبة، في لحظات يسيطر بها الهيجان القومي وتشتعل فيها نار الكبرياء، سواء كان في مهرجان رياضي أو في غيره من مهرجانات أو محطات مُعرّفة بأنها قومية بين أبناء الشعوب؟

العديد من التحركات السياسية والعسكرية الشاحنة حصلت بين الأوروبيين قبل تنهيدة من الزمن، واليوم نرى تلك الفئات القومية تتنافس ضمن دائرة رياضية في بلاد شارلمان. التشيكيون يتنافسون مع سلوفاكيا، ومن ينكر بأن هاتين الدولتين شكلتا دولة واحدة وعلم واحد ومنتخب كرة قدم واحد في السابق. كذلك هنجاريا والنمسا اللتان كونتا إمبراطورية واسعة الأرجاء، تلك الإمبراطورية التي استبدت وقمعت وطغت على أقليات عديدة بعنفها الذي استشرى في جميع أنحائها. بعد الحرب العالمية الأولى انهارت الإمبراطورية الأوسترو- هنغارية واستقلت بعض الأقليات بعد نضالٍ مرير. وها هي اليوم.. تنافس تلك الدول بعضها البعض في مدينة الأنوار ومن حولها. فهل تسربت آلام الملحمة من الجد إلى الولد؟ أم أننا نعيش عهدا جديدا خالياً من ذكريات الماضي؟

ختاماً، بولندا التي تجزأت في الماضي بين روسيا وألمانيا والتي عافت الاستعباد وقهر المستغِل للمستغَل، ما زال شعبها يتخبط في بناء هويته القومية. يمكن القول أن اللقاء بين البولنديين مع أحفاد الألمان أو مع أنصار السوفييت أصبح وارداً. هل ستكون هذه السلسلة من اللقاءات الكروية والإجتماعية طبيعية وبدون موقف؟ أم سيكون هناك مكانٌ للغريزة القومية التي تراكمت ورسخت في الذاكرة الجماعية عبر السنين؟! هل نجح صانعو السلام، الذين تأيدوا بالرجاء، بأن يزرعوا الطمأنينة الداخلية والخارجية في أوروبا؟ أم أن هذا يعتبر تمهيداً لإلتحام القوى الرجعية المحافظة التي أقدمت على نقل الصراع من محور القومية إلى محاور أخرى؟ يطول الحديث في هذا الموضوع ويمتد، وقد يستوجب بحثاً مستفيضاً في المستقبل، ولكن حتى ذلك الحين ننتظر ما ستؤول إليه مجريات المباريات والأسابيع القادمة.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة