الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الثلاثاء 07 / مايو 01:02

انكسر الشّرّ/ بقلم: الباحث د. موسى حجيرات

كل العرب
نُشر: 06/05/16 19:17,  حُتلن: 20:18

موسى حجيرات في مقاله:

ندرك أنّه لم يكسر الشّر وذلك لأنّه ما زال بيننا وندرك أنّه لو كُسِرَ لنجا الكثير من أبنائنا

نأسف على شباب وشابّات تزهق أرواحهم عبثًا ومنهم من يُغدر جسديّا واجتماعيّا كجرائم الشّرف مثلا فنبرّر الغدر لنرتاح ونسكن

الخسارة ليست ضحايا العنف المباشر فقط. فالقتيل منّا، والقاتل منّا، وأهلهم منّا، وكلّما اتّسعت الدّائرة كانت الخسارة أكبر، وأعمّ، وأشمل

من عجائب زماننا هذا أنّنا صرنا نحزن، ونبكي، ونأسف، بشكل موضعيّ، على ما يدور في مجتمعنا من عنفٍ، وجريمةٍ، وفسادٍ أخلاقيّ يكلفنا الكثير الكثير، ويحصد أرواح أبنائنا، فلذات أكبادنا.

في الأسبوع الماضي ضجّت قرانا ومدننا، وضجّ إعلامنا؛ فاحتجّ المحتجّون، واستنكر المستنكرون، وشجب الشّاجبون، وتظاهر المتظاهرون، واعتصم المعتصمون، وبعد وبعد. ولكن، رويدًا رويدًا يعود الصّمت إلينا، ونعود إلى أعمالنا، وأشغالنا تاركين ضحايانا أرقاما تسجّلها إحصائيّات الزّمان.

العجب العجاب، هل نسلك مسلك ثقافة "انكسر الشّر"، هذه الثّقافة العربيّة القديمة، ذات الأساس الجاهلي؟ وثقافة "انكسر الشّر" هي جمل تردّد، عزاءً، حين يُكسر شيء يخصّنا، أو حين خرابه، أو دماره، أو فنائه، وحين نعجز عن ردّ الفاني، أو إصلاح المكسور. نعزّي أنفسنا بجملة "انكسر الشّر". و"انكبّ (انسكب) الشّر" حين تسكب القهوة، مثلا، أو أيّ سائل يعزّ علينا لقيمته الماديّة والمعنويّة. و"ضاع الشّر" حين نفقد أعزّ وأغلى ما نملك.
وما هذه الثّقافة إلا تربية نربّي عليها النّشء، وتنشئة اجتماعيّة نبنيهم عليها.

لهذه التربية أهداف عدّة أهمّها:
• حصر الخسارة بالجانب المادي دون المعنوي والرّوحي.
• اشغال التّفكير في الجانب الإيجابي بدل التّركيز على الخسارة.
• الدّعوة للاستمراريّة والبقاء.
• نسيان الخسارة كعوض عنها.
• وأخيرًا، نسيان الفاجعة والمصيبة، والتّخلص من الأحزان.
نحن ندرك أنّ في هذه التّربية حكمة الكبار، ودراية المجرّبين، ومعرفة العارفين، وندرك أيضا، أنّ الخسارة الماديّة لا تعوّض بشكل مرضٍ أبدًا.
الغريب أنّ البعض من المتشائمين يعرف الأمر، ولا يؤمن به، وينظر إليه بشكل سلبيّ، ويتفوّهون دون وجلٍ، أو حياء منتقدين هذه التّربية قائلين: "نضحك على أنفسنا (نغرّر أنفسنا) ".

لقد قبلنا هذه التّربية في كلّ شيء ماديّ: حين تعطّلت سياراتنا، وحين سرقت أموالنا، وحين احترقت مصالحنا التّجاريّة، وحين جفّت أراضينا، وضربت محاصيلنا الزّراعيّة قلنا دائما: "انكسر الشّر".

ولكن هل نقبلها لكي نسكت أوجاعنا بعد موت خيرة شبابنا ضحايا لعنف أرعن يدخل إلينا من كلّ جانب؟

ولكن في هذه الحالة ندرك شيئا آخر. ندرك أنّه لم يكسر الشّر، وذلك لأنّه ما زال بيننا، وندرك أنّه لو كُسِرَ لنجا الكثير من أبنائنا، بل على العكس لقد جُبِرَ الشّرّ بمعنى ثبُتَ وازداد قوّة وصلابة.

فأحيانا، مثلا، يكون خلاف بسيط بين شخصين، أو عائلتين، أو حمولتين، وحين يقع القتل يتحوّل الخلاف إلى خصومة أبديّة، ويستفحل، ويقوى، ويثبت، ويطول؛ فيصير الشّر يحكمنا، ويحكم تصرّفاتنا وسلوكنا، ويحكم حياتنا.

احترمنا هذه الثّقافة وهذه التّربية، وأخذنا بها كثيرًا، فما هي إلا تراث آبائنا وأجدادنا، ولأنّها كذلك أدركنا أنّها تنمّ عن دراية ومعرفة لثقتنا الكبيرة بهم.

ولكن في وضعنا هذا نأسف فيه على شباب وشابّات تزهق أرواحهم عبثًا، ومنهم من يُغدر جسديّا واجتماعيّا كجرائم الشّرف، مثلا، فنبرّر الغدر لنرتاح ونسكن.

ومنهم من يضرب في جسده، وماله، وأولاده، وعمله، وكلّ ما يخصّه؛ فيخسر خسارة لا يمكن تعويضها أبدًا.
فلا يمكن أن ننهج نهج تربية "انكسر الشّر"، ونواصل الصّمت. أننسى الفاجعة؟ ربّما يكون نسيانها فترة هدوء ما قبل العاصفة وتتلاحق الجرائم بعدها وتتواصل.

فالأولى أن نقف جميعًا ونفكر. لدينا خلل في تريبة أبنائنا؛ لأنّهم يعيشون في عصر غير عصرنا القديم، ونغفل نحن ذلك قصدًا، أو بدون قصد.

ولدينا خلل أيضا، في فهمنا لما ورثنا عن آبائنا وأجدادنا، وكيف نفسّره.

لقد تغيّر الزّمان، والزّمن الحاضر آخر علينا أن نعيش فيه بما يلائمه وليس بما يلائم شخصيّاتنا وما فيها. وعلينا أن ندرك صعوبة واستحالة العيش في الحاضر بعقليّة الماضي.

من ناحية أخرى أينقصنا ذلك؟
أينقصنا أن يقتل بعضنا بعضا؟
أينقصنا أن يعمّ العنف والتّعامل به ربوعنا الوادعة؟
أينقصنا أن نربّي أبناءنا، ونتعب، ثمّ يحصدهم الجهل والعصبيّة؟
أينقصنا أن تنتشر العداوة بيننا فلا الصّديق صديق، ولا الجار جار، ولا القريب قريب.
إن كان ذلك فمن أخسر منّا اجتماعيّا، وماديّا، وأخلاقيّا، ودينيّا؟

ولا ننسى أنّ الخسارة ليست ضحايا العنف المباشر فقط. فالقتيل منّا، والقاتل منّا، وأهلهم منّا، وكلّما اتّسعت الدّائرة كانت الخسارة أكبر، وأعمّ، وأشمل.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة