لا زلت أذكر أبي ودكانه الذي كان بمثابة مجلس للأفاضل من أمثاله وأذكره الآن بالذات إذ أتناول موضوع المعرفة الشخصية، أي معرفة الأشخاص لبعضهم البعض، حيث أذكر هؤلاء الأفاضل الذين لم تكن لديهم قصص للإخفاء عن الأصدقاء، وكانت كل حكاياتهم في حلقة التداول والنقاش، وكانوا يعرفون بعضهم معرفة تخوّل الواحد منهم أن يجيب بدل الآخر، وكانوا نظيفي السيرة ، الأمر الذي جعلهم منفتحين أمام القريب والغريب ولم ينحرفوا ،الأمر الذي جعلهم لا يخافون كلام الناس، عرفتهم في السبعينيات وعرفت عنهم أنهم يعرفون بعضهم معرفة جيدة، واليوم ونحن في عام ألفين، والقرية أصبحت مدينة، وأصبح الانتقال من مكان لآخر أسهل وأسرع، وصار الناس يتكلمون لغات أخرى غير العربية، وبعض الناس تعلم الكذب والنصب والاحتيال والاستغلال، اليوم اصبحنا نرى شخصًا يجاملنا في مناسباتنا، ويكلمنا بلطف، ونحن لا نعرف أنه وراء ظهورنا يسكر ويعربد، أو يزني أو يقامر، أو يسرق وينهب أو يكّن لنا البغضاء، أو يتاجر بنا سياسيًا، ويفعل كل هذا وراء ظهورنا وهو يظهر أمامنا كأنه المهدي المنتظر. وأحيانًا نجد أن أخًا لا يعرف ماذا يفعل أخوه عندما يخرج من البيت أو أبًا لا يعرف ماذا يفعل ابنه، فنعرف أن القريب قد لا يعرف قريبه، إن كان لا يلتقيه ولا يحادثه.
حتى نعرف أي إنسان من ناحية سلوكية أو عقلية علينا أن نكون قريبين من أفعاله ومن أقواله وأن لا نكتفي بمعرفة شكله، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الشخص الذي يصبو إلى المناصب الرفيعة تتقصّى الناس أخباره. وعادة نتقصّى أخبار من يهمنا أمره، والذي لا يهمنا أمره عيب علينا أن نتقصى أخباره، ومن السذاجة أن نقصَّ أخبار أقربائنا أو أصدقائنا لمن قد يوقع بهم، لان من يعرف الشخص يجيد التعامل معه، أمامنا شارة صفراء تقول: احذر من لا تعرف، وشارة حمراء تقول: لا تكن ساذجًا! وشارة خضراء تقول: سر في طريق الحق والخير لأنه الصراط المستقيم