الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الثلاثاء 14 / مايو 17:01

التّدخُّل الرّوسي ومعارك الخارج من أجل الدّاخل/ بقلم: د. رائد فتحي

كل العرب
نُشر: 20/10/15 10:58,  حُتلن: 16:52

د. رائـد فتـحي في مقاله:

 الأمم اليومَ تَخوضُ مَعارِكَ خارجيّة وأُخرى داخليّةِ

الخارجية، هي مَعرَكة شرعَنة الذّاتِ على المُستوى الخارجيّ، بل فرض الذّات على الآخرِ، وفي قليلٍ من الأحيان تَكونُ هذه المعارك من أجلِ تأمين الذّات

امّا الدّاخليّة فهي تَحصينُ الّذات الجَمَعيّة، والهويّة الدّاخليّة. لِقَد كانت الحُروب الّتي تَخوضُها الدّول إلى اليوم، سببها تأمينِ الذّات خارجيًّا، أو تأمين الحُدود الخارجيّة للدّولةِ، وجلب "الاعتراف" الأمميّ بها

مفاهيم الحُريّات الكُبرى بدأت تطغى على الأيديولوجيّاتِ؛ فالدّينُ، والأخلاقُ الجامِعَةُ، والفلسفةُ وحتّى المنطقُ لم تعد حاكِمَةً في توجيه بوصلةِ الدّولِ وإنّما قُبّةُ البرلمان، أو ما يُعبّر عنه بعض فلاسفة الأخلاق المعاصرين بـ "المعايير الأُممية"

الذي شغل بالَ العالم هم المُسلمون الذين يعيشون في الغرب، وادّعى بعضُ الكُتّاب اليمينيين في الغرب أنّ هؤلاء المُسلمين خطرٌ على هويّة الغرب، لأنّهم ينتمون إلى دينهم وعقيدتهم القُرآنيّة

المُراقب للأحداث في سوريّا ومن قبل في ليبيا، يرى أنّ الغربَ لم يَكن على استِعداداٍ للتّدخُّل العسكريّ في هذه المَناطق إلا إذا رأى فيها تهديدًا حقيقيًّا لسيادته أو حدوده

قِتال روسيا على بقاءِ قواعِدِها العسكريّة في سوريّا على حدودِ البحر الأبيضِ المتوسّط، خاصّة وقد بانَ أنّ الغرب لا يرى في روسيا حليفًا بل عدوًّا

تعلمُ روسيا أنّ وجودها بِثِقلها وترسانتها العسكريّة المهولَة، سيعطيها قوّة وحُضورًا على الصّعيدِ السّياسيّ العالميّ، وهذا يَمنَحُها مَجالاً واسعًا للمُحاوَرَةِ والمُناورَة في قضايا أخرى في العالمِ

إنَّ مَن يَكتُبُ التّاريخ هو من يملِك أدواتِ كتابته ونَشره، وأما المُتنَحّون جانِبًا ينتظرون المعجِزات، فإنّهم يَنشغلون بمُتابعة أحداث التّاريخِ لا بِصِناعته. حتّى تَكون مُؤّثّرًا في مسرَح الأحداث، لا يَكفي أن تمتلك عُمقًا تاريخيًّا وديمُغرافيًّا، بل ينبغي ان تمتلك إلى جانب ذلِكَ عُمقًا اقتِصاديًّا وتَفوّقًا عَسكريًّا، لأنّنا في زَمانٍ تُحاربُ فيه الفكرَةُ بالفِكرَةِ، والعَقيدَةُ بالعقيدَةِ... والأمم اليومَ تَخوضُ –لأجلِ ذلكَ- مَعارِكَ خارجيّة وأُخرى داخليّةِ.

أمّا الخارجية، فهي مَعرَكة شرعَنة الذّاتِ على المُستوى الخارجيّ، بل فرض الذّات على الآخرِ، وفي قليلٍ من الأحيان تَكونُ هذه المعارك من أجلِ تأمين الذّات. وامّا الدّاخليّة فهي تَحصينُ الّذات الجَمَعيّة، والهويّة الدّاخليّة. لِقَد كانت الحُروب الّتي تَخوضُها الدّول إلى اليوم، سببها تأمينِ الذّات خارجيًّا، أو تأمين الحُدود الخارجيّة للدّولةِ، وجلب "الاعتراف" الأمميّ بها.

إلا أنّه – وكما يبدو- فإنّ المَرحَلة القادمة ستشهدُ إعلان الحروبِ من أجلِ تَحصينِ الذّات الجمَعيّةِ الدّاخليّةِ، بِمعنى أنّ الدّول قد تَخوضُ حروبًا خارجيّةً من أجلِ تأمينِ الدّاخل وهويّته. وذلك حتى لو لم يتمّ الاعتداء على الحُدود الجغرافيا والسّياسيّة المعروفة بين الدّول.
إنّ الدّولَةَ – بمَفهومها الليبراليّ المُعاصر- تَحوي شَتاتًا من الأيديولوجيّات و العِرقيّات "الإثنيّات"، وهذا آخِذٌ بالتّضخُّمِ بشكلٍ كبيرٍ، ساعَد عليه تطوُّر المواصلات، وسهولة الاتّصالات، والشّركات العابرة للقارات... وعليهِ، فإنّ من أصعب ما سيواجه الدّولة في العُقودِ القادِمة هو الحِفاظُ على الهويّة الجَمعيّة للكيانِ المُسمّى "دولة". سيّما وأنّ مفاهيم الحُريّات الكُبرى بدأت تطغى على الأيديولوجيّاتِ؛ فالدّينُ، والأخلاقُ الجامِعَةُ، والفلسفةُ وحتّى المنطقُ لم تعد حاكِمَةً في توجيه بوصلةِ الدّولِ وإنّما قُبّةُ البرلمان، أو ما يُعبّر عنه بعض فلاسفة الأخلاق المعاصرين بـ "المعايير الأُممية".

إنّ دولاً هذه حالها ستَجِد نفسَها إزاءَ مواطِنينَ لا ولاءَ لهم لأوطانِهم، أو فقُل: ولاؤهم لدولَ أخرى خارجَة عن الحدود الوطَنيّة للدّولَةِ، وإن لم يكن ولاؤهم لدولٍ أخرى خارج حدود الدّولة الرّسميّة، فإنّ ولاءهم قد يكون لفِكرة او عقيدة منشؤها وتطوّرها في دولةٍ أخرى غير دولِهم، هذا فَضلا عَن أنّ أغلَب الدّول تسمح لرعاياها بأن يجمعوا بين جِنسيّتها وجنسيّة دولٍ أخرى.
لا شَكّ هذا يُشكّل تَهديدًا حقيقيًّا للدّولة وسيادَتِها، سيّما على المُستوى البعيد. وأضربُ لذلك بَعض الأمثلةِ: فإنّ الدّول التي يعيشُ فيها نسبة كبيرةٌ من الإيفينجليين البروتستانت (Evangelicalism, Evangelical Christianity) (الإنجيليينَ الجدد)، وأضرِبُ مِثالاً الولايات المتّحدة. مِن المعلوم أنّ ولاء هذه الطّائفة إنّما هو ل "إسرائيل" وتحديد لشعب إسرائيل، إذ يعتقد هؤلاء انّه لما كان الإيمان بالتوراة جُزءًا من عقيدتهم، وجاءت التّوراة بتفضيل (بني إسرائيل) على أمم الأرضِ، فلا بُدّ أن يسلّم الإنسان لبني إسرائيل على أنّهم خير أمّة ويعمل على مساعدتهم لإقامة دولة بني إسرائيل ويحارب كلّ من يقف في وجههم!. ولعلّ من الوجوه الواضحة المٌعبّرة عن هذا التّيار هو جويل روزنبرغ Rosenberg الّذي كان يهوديّا ثم اعتقد بال Evangelicalism وبدأ بالكِتابَة والتّنظير لهذا التّيار، وقد بلغ أوجَ شُهرته، عندما بدأ يتكلّم عن الإعجاز في العهد القديم، وأنّه يحوي اخبار كل ما يحدث في العالم فتنبّأ بالهجوم على البُرجين في منهاتن، والهجوم على العراق، وموت الزّعيم الفلسطينيّ الرّاحل ياسر عرفات قبل أشهر قليلة من وقوع هذه الحوادث، كما انّه اعترضَ على الفاتيكان عندما دعا (الفاتيكانُ) إسرائيلَ للخروج من الأراضي المحتلة عام 1967 ورأى أنّ التوراة توجب ان يكون شعب إسرائيل هو الحاكم للأرض!. فهذا مثالٌ أوّل لنِسبة غير قليلة من النّاس تعيشُ في الولايات المتّحدة خاصّة وترى الولاء المُطلق لحكومات دولة الاحتلال المُتعاقبة، سيّما ذات التّوجُّه الصّهيونيّ الدّينيّ منها مثل الحكومة الحاليّة، بل وترى في نفسها مُدافعًا عن هذا الاحتلال في كُلّ المحافِل الدّوليّةِ.

ويمكن ان نضرب مثالاً أخر، وهم اليهود الّذين يعيشونَ في دولٍ في العالم، وفي المقابل فإنّ لهم حقّ الجنسيّة الإسرائيليّة بِمُجرّد إثبات يهوديّتهم، وهنا تختلط المَصالح وتختلط الهويّة وولاءاتها.
كُلّ لك لم يشغل بال العالم، إنّما الذي شغل بالَ العالم هم المُسلمون الذين يعيشون في الغرب، وادّعى بعضُ الكُتّاب اليمينيين في الغرب أنّ هؤلاء المُسلمين خطرٌ على هويّة الغرب، لأنّهم ينتمون إلى دينهم وعقيدتهم القُرآنيّة.

إنَّ الأمر تجاوزَ هذه النّظريّة المُفترضَةِ إلى ما هو أبعدُ من ذلِكَ بكثيرٍ، فإنّ المُراقب للأحداث في سوريّا ومن قبل في ليبيا، يرى أنّ الغربَ لم يَكن على استِعداداٍ للتّدخُّل العسكريّ في هذه المَناطق إلا إذا رأى فيها تهديدًا حقيقيًّا لسيادته أو حدوده، وكما هو مَعلوم فإنّ سوريّا وفصائل المعارضة فيها، ليست قادرةً–أبدًا- على ان تُشكّل أيّ تهديدٍ عسكريٍّ للغربِ، إلا أنّ الغرب، رأى في الكثير من الفَصائلِ الإسلاميّةِ ولو كانت معتدلَةً تهديدًا هويّاتيًّا عليه من الدّاخل، بل رأى في تنظيم الدّولة تهديدًا حقيقيًّا على البُنيّة الدّاخليّةِ للدّولَة، لأنّه – وفجأة- اكتشَفَ أنّه لم يعمل على تسهيل اندِماج المُسلمين في المُجتمعات الّتي يعيشونَ بها، وإذا بأعداد غير قليلة من هؤلاءِ المُسلمينَ يُظهرونَ ولاءهم لتنظيم الدّولة في وسريا والعراق، فثبتَ أنّ النّسبة الأكبر من الذين التحقوا بهذا التّنظيم هم مُسلمون قادِمون من الغربِ.
استغلّت روسيا، هذا الأمر، وادّعت –فيما ادّعت- انّ بقاء هذا التّنظيم، وإن كان لا يُشكّل خطرًا عسكريًّا مُباشرًا على روسيّا- سياديًّا وحدوديًّا، إلا أنّه يُشكّل خطرًا على الجبهة الدّاخليّةِ في روسيّا، بِمعنى انّه قَد يكون مشجّعًا للكثير من المُسلمين الرّوس، (حيثُ تصل نسبة المُسلمين الرّوس الأصليينَ في روسيَا إلى 17% أي قريب من 22 مليونًا من أصل 140 مليون عدد سُكان روسيا) بان يعتقدوا أفكار هذا التّنظيم ويعتنقوا منهجه في التّعامل مع الآخر. كما انّ روسيا أوردت امرًا آخرَ، وهو "خوفها" من أنْ يعودَ هؤلاء المُقاتلينَ إلى الشيشان، وقد ورثوا عقيدة القِتال على طريقة هذا التّنظيم.
قَد لا يكون لديَ شكٌّ في انَّ هذا الخوف والتوجُّس هو عاملٌ مهمٌ في سببِ دُخول روسيا حربًا إلى جانب نِظام البعث المُستبدّ على رِقاب شَعبِهِ في سوريّا. إلا أنّ ثمّة عوامل أخرى تقف وراء إعلانِ روسيا دخولها الحرب رسميًّا إلى جانب النّظام السُّوريّ.ِ

وهذا سردٌ لأهمّ العوامل الأخرى الّتي حرّكت الدُبّ الروسيّ للحربِ في سوريّا:
- قِتال روسيا على بقاءِ قواعِدِها العسكريّة في سوريّا على حدودِ البحر الأبيضِ المتوسّط، خاصّة وقد بانَ أنّ الغرب لا يرى في روسيا حليفًا بل عدوًّا، وقد بدا ذلك واضحًا في أكثر من ازمةٍ سياسيّةٍ وعسكريّةٍ كان آخرُها في اوكرانيا ومن قبل في بولونيا ويوغسلافيا وإيران.
- قرأ المُحلّلون الرّوس أن ما يَحدُث (أو ما قَد يحدُث) في سوريّا والعِراق هو تمامًا ما حدثَ عندما سقطت الدّولة العُثمانيّةُ، وتقاسمت الدّول الأوروبيّة سيّما بريطانيا وفرنسا مطامعهما في الشّرق الأوسط، بينما خرجت روسيا البلشفيّة صفر اليدين. وروسيا اليوم تُدرِك أنّ روسيا البلشفيّة قد فوّتت على نفسها منطقة حسّاسة ومهمّة جدًا، كانت سببًا في إبراز الولايات المُتّحدة لاحِقًا كالقوة الأولى في العالم، ويبدو انّ روسيا بوتين الفيدراليّة، قرّرت أن لا تقع في ذات الخَطأ الّذي وقع فيه البلشفيّون الذين انشغلوا بمركز آسيا وشرق أوروبّا عن منطقة الشّرق الأوسط.
- تعلمُ روسيا أنّ وجودها بِثِقلها وترسانتها العسكريّة المهولَة، سيعطيها قوّة وحُضورًا على الصّعيدِ السّياسيّ العالميّ، وهذا يَمنَحُها مَجالاً واسعًا للمُحاوَرَةِ والمُناورَة في قضايا أخرى في العالمِ، منها: جزيرة القرم، ومنظمة التّجارة العالميّة، الحصار الاقتصادي على روسيا، الملف الإيراني وتصدير صواريخ سام...إذ روسيا تعلم عِلمَ يقين بعدَ تجربتها في يوغسلافيا وليبيا أنّ من يسبق من القوى الكبرى العالميّة بالتدخّل العسكريّ فقد حاز قصبَ السّبق، ولا يمكن للقوى العسكريّة الكُبرى الأخرى ان تُنازعه في هذا التّدخُّل، لأنّ المُنازعة ستُفضي إلى حربٍ عالميّةٍ ثالثةٍ، وهذا ما يتجنّبه الجميع مهما كان الثمن. وهذا ما جرّبته روسيا في يوغسلافيا، فإنّ الصّرب بينما كانوا يحرقونَ المُسلمينَ في البوسنة والهرسك وكوسوفا، تدخّل حلف الناتو، وبعد ان صار تدخُّل الناتو أمرًا واقِعًا؛ بدا ان تدخُّل روسيا لحِمايَةِ حليفَتها من خطر الانقسام امرٌ مُستحيلٌ، لأنّ هكذا تدخُّل ليسَ فيه غالبٌ ومغلوبٌ وإنما حربُ دمارٍ عالميَّةٍ، والأمر ذاته بِحِدّةٍ اقلّ ظهرَ في ليبيا، فإنّ الناتو مع بعض الدّول العربيّة يوم ان تدخّلت، فإنّها قَطعت الطّريق على روسيا لأنّ تدخُّلها في تلك الحال سيعني حرب إبادَةٍ عالميَّةٍ. في هذه المرّة سارَعت روسيا قبل أن تنزل قوّاتُ "الحُلفاء" على الأرض السُّوريّةِ، بإعلانِ انّها بعثت تعزيزاتٍ عَسكريّةٍ، كأنّها تقولُ لقد تعلّمت من المرّتين الفائتتين، والآن جاء دورُكم ان تتعاملوا بـ "أدبٍ و مسؤوليّةٍ و ضبطِ نفسٍ" كما فعلتُ أنا من قبل.
- لا شَكّ أنّ من أهداف روسيا إبقاء حليفاتها في المنطقة (إيران، العراق سوريا وحِزب الله) قويّة، وهذا يعني بقاء روسيا قوّة مُعتبرةً في أيِّ تسوياتٍ في المَنطقة، وسيُرجَعُ إليها في كُلّ الأمور المُتعلّقة بالشّرق الأوسَطِ.
- يغلبُ على الظنّ، انّ روسيا أخذت الضوء الأخضر من كثيرٍ من الدّول العربيّةِ، منها: مصر، العراق، الجزائر، الإمارات وحتّى السّعوديّة في هذا التّدخُّل هذا بالإضافَةِ إلى إيران وسوريّا ولُبنان.
- إنّ التدخُّل الرّوسي فيه فُرصة لا تُعوّض لتجرِبَة السّلاح الروسيّ، القديم منه والجديد، فأمّا القديم فمن بابِ تقييم مدى جدوى إبقائه او رفعه من الخِدمَةِ العسكريَّةِ وأمّا الجديد فلأجلِ امتِحانِ جاهزيّته وجدواهُ، في هذا السّياقِ، يُمكن ان يُفهم استِخدام روسيا لسُفنها المُرابِطَةِ في بحر قَزوين.
- لا أستَبعِدُ ان تكون بعضُ الدّول العربيّة والإسلاميّة قَد تكفّلت بتكاليف هذه الهجمة "الحملة" العسكريّةِ الروسيّة على سوريّا او على تنظيم الدّولة وبعض فصائل المُعارضة في سوريّا كما يقول الرّوس.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة