الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 28 / أبريل 22:01

كتاب حيفا الكلمة التي صارت مدينة/ بقلم: د. سميح مسعود

كل العرب
نُشر: 14/09/15 11:34,  حُتلن: 11:35

د.سميح مسعود في مقاله:

يسبر المؤلف اغوار الجوانب الاجتماعية والمعرفية التي تفعل فعلها في بلورة تفاصيل حركية الحياة الحيفاوية في زمن مضى

وثمة ملامح كثيرة في صور الكتاب تُبين مسيرة حيفا العمرانية بيوت بالغة الأناقة مبنية بحجر أبيض مدقوق بعناية كبيرة متناثرة في كل الجهات

الكتاب نتاج غني ومتنوع صدر عن مؤرخ متميز ملتزم بقضايا شعبه وأمته تمكن بخبرته الطويلة أن يقدم صورًا جلية مرئية عن مكونات حيفا الأعمق

صدر هذا الكتاب مؤخرًا في حيفا، وهو من تأليف الدكتور جوني منصور، الملقب بمؤرخ حيفا، صاغه بمرجعية وطنية بهدف سبر أغوار مدينته، لتعريف القارئ المعاصر على دلالات ومضامين مختلف جوانب حياتها الماضية، التي جعلت منها واحدة من أهم مدن فلسطين والدول العربية على امتداد سنوات طويلة، لازدهارها وامتلائها بالفرص الواعدة.


غلاف الكتاب

تستيقظ الذاكرة في هذا الكتاب على مدينة انفردت بمزايا اقتصادية وثقافية وعمرانية كثيرة جعلتها تعيش ازدهارًا منقطع النظير؛ ميزها عن كثير من المدن الأخرى القريبة منها، وجعلها مدينة مركزية بكل معنى الكلمة؛ تنبض بمظاهر انتعاشات اجتماعية واعلامية وفنية، وتوفر سبل عمل كثيرة متشابكة لأهل فلسطين، ولغيرهم من سكان الدول العربية الأخرى المجاورة لها وغير المجاورة.

يقع الكتاب في 502 صفحة من القطع الكبير، كتاب ممتع ضخم وشامل، يضم بين دفتيه مجموعة كبيرة من المقالات التي تُشرع أبواب حيفا عبر الزمن، لتعريف القارئ بمشاهد ولحظات وأفكار متناغمة ومنسجمة، عن تاريخها وأعلامها البارزين ومعالمها الحضارية وأحداثها الرئيسة والمصيرية التي شهدتها في ماضي أيامها، منذ أن كانت قرية صغيرة للصيادين وحتى غدت مدينة عصرية كبيرة.

ويحتوي الكتاب أيضا ًعلى مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية، التي تعبر في مجملها عن علامات دلالية مهمة للمجتمع الحيفاوي، جمعها مؤلف الكتاب من عائلات حيفاوية على مر العقود الثلاثة الماضية، ليزود القراء برؤية استثنائية تزخر بالحيوية، تعطي صورة حقيقية عن واقع الحياة في حيفا قبل النكبة، يظهر الكتاب بها بشكل بانورامي متميز، يجمع بعلاقة متشابكة بين تاريخية الزمن وجغرافية الذاكرة، وهذا يُسهل على الأجيال الصاعدة والقادمة معرفة مدينتهم، وجعلها حية في وجدانهم، وجعل ذاكرتها خالدة على مدى الأيام.

بهذا يسبر المؤلف اغوار الجوانب الاجتماعية والمعرفية التي تفعل فعلها في بلورة تفاصيل حركية الحياة الحيفاوية في زمن مضى، يمكن للقارئ تتبع خيوطها في مسالك النص، فصلًا بعد آخر، مصحوبة بصور متشابكة معها، آهلة بشخوص من أهل حيفا وبمشاهد ولحظات تزدهي بها أيام حيفا الماضية، تُقدم لأول مرة للقارئ بدرجة عالية من الشمول والعمق والامتداد، ويتميز الكتاب بها، وتمنحه دلالات فريدة وإيقاعات خاصة.

يتتابع على صفحات الكتاب توضيحات تاريخية كثيرة، في فضاء واسع من التذكر تشكل النسيج التاريخي الخام لحيفا منذ بداياتها الاولى في العهد العثماني، ومرورًا باحتلالها من قبل الإنجليز في العهد الانتدابي، ووصولًا إلى أيامها الأخيرة، عندما عمها الخراب والدمار، وتم تهجير سكانها الأصليين في نيسان عام 1948، مع بدء تنفيذ مخططات التهجير والتطهير العرقي التي عمت بقية المدن والقرى الفلسطينية.

ثمة مشاهد تاريخية كثيرة تم تعريفها، في إطار أحداث متشابكة في شتى المراحل، خليط تاريخي يمتد ليشمل شخصيات واحداثًا ساهمت في تشكيل حيفا بأكملها و " بناء نسيج اجتماعي موحد مؤسس على رؤية عروبية، وهذا ما ميز أهالي حيفا؛ تمسكهم بالرابطة القومية، وسعيهم إلى تثبيت جذورها عبر تاريخ مدينتهم المعاصر".

وثمة ملامح كثيرة في صور الكتاب تُبين مسيرة حيفا العمرانية؛ بيوت بالغة الأناقة مبنية بحجر أبيض مدقوق بعناية كبيرة، متناثرة في كل الجهات، تعلو أغلبها شرفات مطلة على شاطئ البحر، كما تبين الصور حيثيات البيوت من الداخل؛ تظهر حمولات دلالية كثيرة عن نمط حياة سكان حيفا، وعلاقتهم بالعصر الذي عاشوا فيه من حيث أزيائهم، ووسائل الراحة والرفاهية والفخامة الفاخرة التي توفرت لهم، بما يوحي ويعبر عن علو مستوى معيشتهم.
يتسع مدى الصور، وتشتد وطأة حيفا فيها؛ تظهر فيها مناظر خلابة للبحر والكرمل، و جوانب كثيرة من أحياء حيفا الممتدة في كل الجهات، حي وادي الصليب والحليصة وساحة الحناطير ووادي النسناس وغيرها، كما يظهر شارع الملوك وغيره من الشوارع الأخرى، وثمة صور أخرى تستحضر مساجد حيفا وكنائسها وحدائقها ومسارحها ومدارسها وصحفها وأسواقها وفنادقها وأنديتها الرياضية والثقافية والاجتماعية.

وجدت في مسالك النص بين ما وجدت، تفاصيل كثيرة عن شخصيات متميزة عاشوا في حيفا؛ منهم المطران غريغوريوس حجار مطران العرب من رموز الحركة الوطنية الفلسطينية، الشيخ عز الدين القسام صاحب التجربة الثورية الأولى في عام 1933، القائد الأردني الشهيد محمد حمد الحنيطي قائد حامية حيفا، الكاتب عبد الله مخلص حافظ التراث العربي، الأديب عزيز سليمان ضومط ابن حيفا الذي حظي بشهرة واسعة بمسرحياته وكتاباته في المانيا ودول اخرى وتم ترشيحه لجائزة نوبل للآداب في عام 1936، الدكتور داهش الذي ذاع صيته في كافة أنحاء المعمورة بفعل المعجزات التي قام بها وعجز العلم آنذاك عن تفسيرها، الشاعر جميل البحيري باعث النهضة الأدبية والثقافية في حيفا، الشاعر مطلق عبد الخالق الذي واكب مسيرة شعبه النضالية من أجل إحقاق حقوقه في وطنه.

ومنهم أيضًا، محمود المغربي الحيفاوي الذي اصبح أول رئيس وزراء في ليبيا بعد سقوط الملكية، نجيب نصار صاحب جريدة الكرمل الحيفاوية التي تأسست قبل أكثر من مئة عام، رشيد الحاج ابراهيم رئيس اللجنة القومية بحيفا، سامي طه النقابي الأول للحركة العمالية في فلسطين، الشاعر وديع البستاني الذي بادر مبكرا إلى تأسيس الجمعية الإسلامية – المسيحية التي تحولت إلى اللجنة التنفيذية العربية ومن ثم إلى الهيئة العربية العليا، الفنان المسرحي إسكندر أيوب بدران عميد المسرح العربي الفلسطيني، نوح ابراهيم الشاعر الشعبي الوطني والثائر الذي استشهد من أجل وطنه، واشتهر بقصائد كثيرة منها قصيدة " دبرها يا مستر دل".

شخصيات مهمة رائدة ومؤثرة من فلسطين ومن خارجها من الدول العربية المجاورة، امتزجوا كلهم في تكوين حيفا البشري بتناغم رائع، يرصد الكتاب سيرهم على كل الصعد المهنية والوظيفية والفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية، ويبين بموضوعية في فصول متتابعة مدى ارتباطهم بالمكان وأحداثه، في سياق حكايات تشكل بمجموعها لوحة تجسد أبعاد مشاهد كثيرة مفعمة بالحيوية.

وفي إطار تعريفه للنخب الحيفاوية، يتيح الكتاب معرفة أنشطة أعمال متميزة بدأت في حيفا، ولا زالت آثارها مستمرة حتى الآن، مثال ذلك تأسيس رجل الأعمال حسيب صباغ شركة اتحاد المقاولين في حيفا في أربعينيات القرن الماضي، هي نفسها الشركة التي أعاد تفعيلها بنفس الاسم في بيروت عام 1952، مع شريكين أحدهما من صفد والثاني من أهالي حيفا، و تعتبر في الزمن الراهن من أكبر شركات المقاولات في الوطن العربي، وحتى على المستوى العالمي، يعمل فيها أكثر من سبعين الف عامل.

ومن الأعمال المتميزة الأخرى التي بدأت في حيفا، شركة الكات للمقاولات التي أسسها إميل البستاني ( لبناني الأصل ) في دكان صغير بشارع الملوك في أربعينيات القرن الماضي، واشتهرت بعد ذلك وأصبحت من كبريات شركات المقاولات العربية، وهذا مثال على مآثر حيفا، واحتضانها للكثيرين من ابناء الدول العربية المجاورة.

أجل كان الكثيرون يلجؤون إلى حيفا للعمل؛ ينضمون إلى سكانها، تمتلئ بهم، كانوا يأتون إليها من دول كثيرة عربية وغير عربية، وهكذا شبت فيها أجيال من منابت ومشارب مختلفة من الوافدين إليها بعلاقات اجتماعية مترابطة مع أهل البلاد، يسودها جو من الاحترام والتعايش المشترك، عملوا في كل مراكز حيفا وانشطتها وعاشوا كأبنائها وساكنوا أهلها في كل أحيائها وشوارعها والضواحي القريبة منها.

وخلاصة القول، إن هذا الكتاب نتاج غني ومتنوع، صدر عن مؤرخ متميز، ملتزم بقضايا شعبه وأمته، تمكن بخبرته الطويلة أن يقدم صورًا جلية مرئية عن مكونات حيفا الأعمق في الزمان والمكان، بكل ما فيها من خصوصية متميزة، نحن نحتاج إلى معرفتها اليوم اكثر من أي وقت مضى، حتى تبقى حية في ثنايا الذاكرة.

 المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net 


مقالات متعلقة

14º
سماء صافية
11:00 AM
14º
سماء صافية
02:00 PM
13º
سماء صافية
05:00 PM
9º
سماء صافية
08:00 PM
9º
سماء صافية
11:00 PM
06:12 AM
05:31 PM
2.78 km/h

حالة الطقس لمدة اسبوع في الناصرة

14º
الأحد
16º
الاثنين
15º
الثلاثاء
14º
الأربعاء
17º
الخميس
16º
الجمعة
16º
السبت
3.83
USD
4.09
EUR
4.78
GBP
243668.52
BTC
0.53
CNY