الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الإثنين 29 / أبريل 12:02

ذاكرة الحرب حرب الذاكرة/ بقلم: الياس خوري

كل العرب
نُشر: 14/04/15 08:38,  حُتلن: 08:41

الياس خوري في مقاله: 

الذاكرة صارت مجرد فكرة نعلّق عليها العجز عن بناء ذاكرة جماعية فنغرق في حرب الذاكرة وتصير الحرب ذاكرات متضاربة وحكايات تنفي حكايات ومجازر تحجب مجازر

في الذكرى الأربعين للحرب الأهلية، يُجمع أغلبية اللبنانيين على أن الحرب لم تنته وهي بالتالي ليست ذاكرة انها حاضر يحتاج إلى قراءة وواقع مأسوي يحتاج إلى قوى جديدة من أجل الخروج منه

13 نيسان/ أبريل 1975- 13 نيسان/ أبريل 2015، ومرت السنوات، أربعون عاما على ذكرى انطلاقة شرارة الحرب الأهلية اللبنانية، وربع قرن على نهايتها، ولا يزال لبنان يتخبط بين ذاكرة الحرب وحرب الذاكرة. صارت الذاكرة مجرد فكرة نعلّق عليها العجز عن بناء ذاكرة جماعية، فنغرق في حرب الذاكرة، وتصير الحرب ذاكرات متضاربة وحكايات تنفي حكايات ومجازر تحجب مجازر.

العجز اللبناني عن بناء ذاكرة جماعية ليس ناجماً عن عجز المؤرخين عن كتابة تاريخ موّحد، أو عن عجز الثقافة اللبنانية عن بناء ارض مشتركة لشعب مزقته الحروب، بل هو ناجم عن تداخل مسألتين:

الأولى هي عجز الحرب عن انتاج منتصر ومهزوم، نظرا لطبيعتها الطائفية من جهة، وتداخلها بالواقع الاقليمي الذي لم يصل إلى توازنات ثابتة، من جهة ثانية.

والثاني هو الشعور بأن الحرب لم تنته، وبأن السلم ليس سوى فاصل مؤقت بين حرب كانت وحرب ستكون.

في ظل غياب المنتصر يصير الجميع مهزوماً، لأن الجميع دفع ثمن الحرب، لكن السلم سواء في زمن الهيمنة العسكرية السورية أم ما بعدها، لم ينتج هذا الشعور إلا لدى قطاعات محدودة من النخب الثقافية التي زاد السلم من عزلتها وتهميشها، بينما اتخذت الحرب لنفسها أسماء جديدة، واختبأت خلف انقسامات أعادت انتاج مراحلها عبر مزجها بشكل يعكس ميزان القوى الجديد في المنطقة وفي لبنان.

جميع محاولات قراءة الحرب من ماضيها، وصلت إلى طريق مسدود، وعجزت عن بناء ذاكرة لبنانية موحدة.
كيف نفرأ الحرب إذا؟ أم علينا أن نغمض عيوننا، ونكتفي بقراءة إنسانوية صارت اليوم هي القراءة السائدة، قراءة تكتفي من الحرب بإدانة جرائم ماضيها، متجاهلة واقعها الراهن، بما يحمله من انتهاكات مستمرة للمواطن؟
القراءة الإنسانوية ضرورية، وتشكل يقظة ضمير وخصوصا حين يتعلق الأمر بمأساة المخطوفين، الذي لا يزال مصيرهم مجهولا، ولا تزال بقاياهم مطمورة في مقابر جماعية لا تُفتح، أو بالمجازر الجماعية، أو التروما التي صارت جزءا من حيوات اللبنانيين بمختلف فئاتهم.

أم نلجأ إلى جلد الذات، وندين كل من قاتل في الحرب بصفته مجرماً نجا من العقوبة عبر قانون عفو مُدان. هل كانت المشاركة في الحرب جريمة؟ واذا كانت كذلك فهل يعني هذا أن جميع القوى السياسية التي شاركت في الحرب كانت حاضنة للجريمة، وأن كل الخطابات السياسية التي ازدهرت خلال الحرب كانت مجرد غطاء لجريمة شكلت لعنة لبنانية أبدية؟

الحقيقة أن هذا النوع من القراءة هو أسهل الطرق لعدم القراءة. لذا يصير الدفاع عن الذاكرة هو الطريقة الأفضل لمحوها. ويصير الكلام عن الماضي هو وسيلة للتهرب من أي كلام.

أما إذا قرأنا الحرب من حاضرنا اليوم، فسنتوقف عند ظاهرتين:
الأولى هي أن حرب لبنان تبدو وكأنها كانت مجرد تمرين على الحروب الأهلية التي تعصف بالمنطقة. كأن لبنان كان طليعة اللعنة التي ستعم، والملعب اللبناني ساحة جانبية للتمرين على التمزّق الذي دخله المشرق. وكما كانت الحرب اللبنانية كابوساً جاء بعد تحطم حلم التغيير عبر الاجتياح العسكري السوري، فإن انحطاط المشرق جاء بعد حلم التغيير الديموقراطي الذي صنعته ثورات شعبية تميزت ببطولة استثنائية، وجرى قمعها بوحشية مطلقة.

الثانية هي أن حرب لبنان النائمة اليوم، هي انعكاس للحرب الإقليمية التي تقودها قوتان طائفيتان تتخذان شكل دولتين دينيتين: إيران الخمينية وجزيرة العرب السعودية. لذا تتخذ حرب لبنان النائمة شكل الصراع – الحوار بين كتلتين سياسيتين: تيار المستقبل السني حليف السعودية وحزب الله الشيعي حليف إيران. وهاتان القوتان السياسيتان جديدتان على الساحة اللبنانية ولم تكونا موجودتين خلال الحرب، بل نشأتا على هوامشها كحال حزب الله، أو على هوامش محاولة تسويتها كتيار الحريري. ومع ذلك فهما اليوم قوتاها الأساسيتان، ومن حولهما أو على اطرافهما تتشكل القوى الأخرى.

هل هذا يعني أن الحرب اللبنانية كانت حربا بالوكالة فقط؟ ولماذا انخرط فيها اللبنانيون اذن؟ هل لأنهم مجرد حمقى أم لأن هناك أسباباً داخلية تتعلق بفائض اجتماعي هائل: طلاب حركة عمالية، مناطق مهمشة… لم تستطع البنية السياسية استيعابها، كما أن هناك أسباباً تتعلق بالتوازنات بين الطوائف المهيمنة التي صارت بحاجة إلى تعديل جذري.

الفائض الاجتماعي وجد في اليسار المتحالف مع المقاومة الفلسطينية وسيلته للتغيير، لكنه اصطدم بالواقع الأقليمي، وهزم عام 1976، وقضي عليه في اجتياح عام 82، بعدما مُنع وعجز عن قيادة مقاومة للاحتلال كان له الفضل في إطلاقها.

أما توازنات الطوائف فقد تعرضت لتعديلات جذرية، خصوصا بعد الثورة الإسلامية في إيران، والتحالف بين النظامين الإيراني والسوري الذي سيستبدل التحالف السوري السعودي الذي صاغ تسوية الطائف.

في مناخ الانقلاب الذي شهدته المنطقة، انكفأت الغلبة المارونية التي أسست الكيان عبر الميثاق الوطني بالاشتراك مع السنية السياسية، ودخل لاعب جديد قادر على خلخلة المعادلة هو اللاعب الشيعي.

اللافت أن المعادلة الجديدة تمت في سياقين مختلفين، فبينما جاءت هيمنة حزب الله بشكل عنفي عبر معارك مع حركة أمل، وعبر تصفية المقاومة الوطنية وملاحقة اليساريين الدموية من قبل الثنائي الشيعي، وعبر الزبائنية السياسية، جاءت هيمنة المستقبل على المدى السني بقوة المال السياسي والزبائنية، وترسخت كرد فعل على اغتيال الحريري.

لا يفهم صعود هاتين القوتين الا كجزء من قوتين اقليمتين تتنازعان الهيمنة على المنطقة، وهما يعيدان تأكيد مقولة ان الطائفة لا تتشكل كقوة سياسية قادرة على الهيمنة أو على لعب دور سياسي أساسي إلا اذا كانت حليفة قوى خارجية، أو امتدادا سياسيا لها.

والحقيقة أن القوتين اللبنانيتين الرئيستين اثبتتا أن ما يحركهما هو التنازع على الغلبة في مناسبتين كبريين، الأولى في 14 آذار/ مارس عام 2005 والثانية في تموز/ يوليو عام 2006، بدلاً من أن يتم جمع انتصارين وطنيين كبيرين ضد هيمنة الاستبداد السوري الأسدي وضد العدو الاسرائيلي، جرى طرحهما، وتم ادخال البلاد في دوامة صراع جديد لا يعلم أحد كيف يمكن الخروج من آثاره المدمرة.

اليوم، في الذكرى الأربعين للحرب الأهلية، يُجمع أغلبية اللبنانيين على أن الحرب لم تنته، وهي بالتالي ليست ذاكرة، انها حاضر يحتاج إلى قراءة، وواقع مأسوي يحتاج إلى قوى جديدة من أجل الخروج منه. هذه القوى يجب أن تأتي من خارج وعاء النظام السياسي الطائفي، كي تضع نهاية للحرب عبر بناء دولة ليست تابعة، بقوى سياسية تمثل فئات المجتمع وطبقاته ولا علاقة لها بالطوائف الدينية. عندها فقط تصير الحرب ذاكرة نتذكرها وننساها، نحاكمها ونكتشف اخطاءها وبطولات أبطالها المهدورة، نحاسب ونحاكم مجازرها ووحشيتها كي نتحرر من الوحشية التي تعصف بنا وبمشرقنا العربي.

نقلًا عن القدس العربي

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net
 

مقالات متعلقة