الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأربعاء 22 / مايو 02:02

بعد فوات الأوان!!! نديم إبريق


نُشر: 29/05/08 18:27

كان يُشاطرني الغرفة في المستشفى حين انتابتني وعكة صحية . رجلٌ يبدو عليه بأنه تجاوز الخامسة والستين من عمره . قضينا سوية أسبوعاً في تلك الغرفة المقيتة ، التي فرضها عليّ وعليه المرض . لاحظتُ خلال هذا الأسبوع قلة عائديه ، أو بالأحرى عدمهم ، فقد ترددتْ على  عيادته امرأة واحدة فقط ، تجاوزت الأربعين ، تكهنتُ بأنها زوجته الثانية ولم أُخطئ في حَدسي...
ذات ليلة ، وبعدما أبى النوم مصاحبتي ورفضت عيناي بشدة أوامر الإغلاق ، التفتُ إليه محاولاً جذبه لأطراف الحديث :
- عم أبو جمال ، عُذراً على التطفل والسُؤال ، ولكن ألا يوجد عندك أولاد ...!؟
تنهّد أبو جمال طويلاً وانهمرت دمعة صامتة-حارقة على خدّه ، احمّر وجهه فخفتُ أن يصيبه مكروه فأحاسبُ نفسي حتى آخر يومٍ في عمري...
_ آسف ، عم أبو جمال ، أنا لم أقصد بسؤالي أل...
_ لا تتأسف يا بُني ، فسؤالك لم يزعجني ، لأن النَزيف في داخلي قوي وليس بحاجة إلى من يحركهُ ... سأقص عليك بإيجاز  قصتي وعندها ستزول علامات الاستفهام :
تزوجتُ من امرأتي الأولى قبل حوالي أربعين عاماً . كانت مثال المرأة الفاضلة الصالحة . لا أذكرُ بأنها أغضبتني يوماً ،  أحاطتني برعايتها واهتمامها ، فكانت نِعم الزوجة ونِعم الرفيق.أنجبت لي زوجتي ثلاثة أولاد واهتمت بتربيتهم وتهذيبهم وتعليمهم ، لأن العمل أخذ القسط الأوفر من وقتي في ذلك الحين . ولكن قبل عامين لبّت زوجتي نداء ربها . تأثرتُ جداً على فراقِها ، بكيتُ وانفعلتُ ، فقد كانت بالنسبة لي الزوجة والأخت والأم والصديق... ولكن لا اعتراض على حُكم الله سبحانه وتعالى ، فنحن أمانات  وله الحق باسترداد الأمانة متى شاء. عشتُ سنتين بعد وفاة زوجتي ولم أفكر بالزواج إطلاقاً، ولكن الوحدة يا بُني بدأت تقتلني يوماً بعد يوم ، فالأولاد ينْصّب جلّ اهتمامهم بزوجاتهم وبنيهم وأعمالهم. كانوا يحضرون لزيارات خاطفة ، فأبقى معظم الوقت أحادثُ نفسي وذكرياتي ، فلا جليس يؤنس وحدتي ولا سمير يُحادثني ... داهمني المرض واشتد عليّ ،  فزادت حاجتي إلى من يرعاني عن قربٍ . زارني أحد الأصدقاء وما أن شاهد عن كثبٍ أحوالي حتى نصحني بالزواج ، لكي لا أكون فريسة للوحدة وللمرض. علِمَ أولادي بذلك فثارت ثائرتهم وتعالت الأصوات المنددة بهذه الخطوة ، التي معناها في نظرهم نسيان معروف أمهم ونكران صنيعها . ادّعوا بأن زواجي في هذا العمر سيفقدني الاحترام بين الناس  في القرية.
باختصار ، أرادوا بأن ألبس الكفن وأنا حي وانتظر أجلي المحتوم . ولكن معارضتهم هذه لم تُثنني عن عزمي على الزواج ، فقد جمعتهم ذات ليلة وأخبرتهم بأنني عاقد العزم على الزواج  من عزباء من القرية المجاورة ، تبلغ من العمر خمسة وأربعين عاماً. خلال تلك الجلسة حاولت أن أطمئنهم ، فأنا أدري بما تختلجه نفوسهم من الشكوك وأعلم بهواجسهم وأدرك بأن حُب المال ديدنهم ، فأخبرتهم بأن زواجي هذا لن يؤثر على ما سيحصل عليه كل واحد منهم من ميراث ورزق وأموال ...
وفعلاً ، تزوجتُ يا بُني من تلك  العزباء  ، التي هي الآن زوجتي الثانية والتي تمكث كما ترى معظم الوقت إلى جانبي في المستشفى . أحمد الله بأنها كالأولى امرأة  فاضلة ، صالحة ،  ترعاني وتؤانسني في وحدتي وتهتم جداً بصحتي... ولكن بسبب مقاطعة الأولاد لي منذ زواجي سكنَ الألم في جوارحي ومكثَ الحزن في صدري فاشتد المرض عليّ وأُدخلتُ المستشفى قبل أسبوع ، وكما ترى لم يأتِ أحدٌ من أولادي لزيارتي...
- وهل يعلم أولادك أنك في المستشفى ؟
- نعم، يعلمون ولكن...
سكت أبو جمال ، فقد اختنقت الكلمات في حنجرته . قررتُ حينها أن أضع حدّاً لهذه المحادثة خوفاً عليه وعلى نفسي...
غداة اليوم اشتدّ  المرض جداً على أبي جمال . كان المسكين يئن أنيناً يقطّع القلوب . جلستْ زوجته طيلة الوقت بجنبه ولم تُفارقه ولو للحظة واحدة ، محاولة التخفيف والمواساة ...
فجأة سمعته يحادث زوجته بكلماتٍ تخرجُ بشق الأنفس:
- نجاة ، قولي للأولاد بأنني مسامحهم من قلبي على كل ما فعلوا...
- لا تُرهق نفسك بالحديث يا أبا جمال ، المهم الآن صحتك وسترجع معافى  إلى البيت بإذن الله... 
- أشعر يا نجاة بأن ساعة الفُراق قد حلّتْ ... نجاة...سلّمي على الأو...
ولم يستطع أبو جمال أن يُكمل جملته ، فقد لفظَ أنفاسهُ الأخيرة. استدعت نجاة الأطباء بسرعة ، ولكن لم يبق َ أمام هؤلاء إلا أن يُقدّموا لها العزاء . أجهشت في البُكاء قائلة بصوت ٍأبح:
- الله يرحمك يا أبا جمال  ويجعل مأواك الجنة ويُسامح أولادك!!!
بادرت نجاة بالخروج من غرفة المستشفى ، وما كادت تخطو بضع خطوات ، وإذ بهم يتراكضون ... رفعت رأسها، موجهة نحوهم  نظرات عتاب عبر عينين متجمرتين ، وقالت من فمٍ مُبلّل بالدموع :
- حضرتم !؟
- ماذا حدث ؟ لماذا تبكي ؟ ما بك ؟ ماذا حدث لأبينا؟
- أبوكم ؟ الآن فقط تذكرتم بأنه أبوكم ؟ لقد تأخرتم جداً على "أبيكم"! حضرتم ولكم بعد فوات ألأوان ! وقبل أن أفارقكم وإلى الأبد أيها "الأبناء " أريد أن أقول لكم بأن أباكم يسامحكم من قلبه على ما فعلتم . فقط ادعوا الله سبحانه وتعالى – لعلّه يغفر لكم ...
دخل الأولاد إلى غرفة أبيهم ، أمّا نجاة فعادت إلى قريتها تحمل ذكريات أجمل سنتين في عمرها ...

مقالات متعلقة