الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 16 / مايو 09:02

عودةٌ تشعّ بالأمل...بقلم: فؤاد خوري


نُشر: 27/05/08 07:59

بعد أن طمحت سعاد طيلة هذه السنوات بابنٍ يكون لها سندًا وأملاً في حياتها، ها هو مُناها الآن قد تحقق، فبعد مرور خمس سنوات من زواجها، رُزقت سعاد بطفلٍ يملأ حياتها بهجةً وسرورًا، أمّا سمير والد الطفل فقد سُرَّ كثيرًا بهذا الطفل الذي أضفى على حياته سعدًا وهناء، سمّيا الطفل شادي، وشادي ترعرع وكبر ونما بين أحضان والديه، وغدا طفلاً رائع الجمال، متميزًا في كل شيء.
حقّا لقد ادخل شادي الهناءة الى حياة والديه، فلوّنها بلون قوس قُزح ، فلقد اضحى الحُلم حقيقةً، وواقعًا يزخر بالآمال السعيدة، وشادي يومًا عن يوم، يزداد بهاء وإشراقًا، فقد كان طفلاً نبيهًا، غلبت على وجهه الابتسامة الضحّاكة.
شادي كان مولعًا بالخيول ، فما ان يرى حصانا ، حتّى يهب اليه مداعبًا مُتفحِّصًا، فلا غرو فالخيول اضحت دِينَه وديدنه .
في أحد أيام الربيع، قرَّر سمير وسعاد الخروج للتنزه في احضان الطبيعة، فالطقس جميل ومناسب لمثل هذه الرحلة العائلية، واتفقا على اصطحاب شادي معهما، طار شادي فرحًا عندما علم أنهم سيذهبون لرحلة في أحضان الطبيعة.
في يوم الأحد، خرجوا بعد أن حضّروا كلَّ شيء من معدات الطعام ولوازم الرحلة، ولكنهم لم يذهبوا وحدهم، بل رافقهم مالك أخو سمير وعائلته، وأيضًا سوزان أخت سعاد مع زوجها وأولادها، كم شعروا جميعًا بالمتعة في هذا النهار، فأجواء الطبيعة تبعث في النفس نشوةً، انفرد سمير ومالك في لعب الشطرنج، بينما سعاد وسوزان كانتا مشغولتان بإعداد الطعام، والأولاد يلعبون في أرجاء الطبيعة بالكرة، تارةً يلعبون وتارةً يتجولون، ولكنَّ شادي الأصغر بينهم، كان يتجول لوحده، فالمنظر الخلاّب دفعه إلى ذلك، وفجأةً، والجميع كلٌ منهمك ومشغول، وإذ بشادي يلحظ مجموعةً من الخيول مارةً من أمامه، فما إن رآها حتّى اندفع راكضًا وراءها، إلى أن أخذته خطواته إلى عالمٍ بعيدٍ عن أهله وأقاربه.
في البدء لم يلحظ أحدٌ أنَّ شادي اختفى عن الأنظار، الجميع ظنّوا أنّه يتفسح في الطبيعة كعادته، ولا بدَّ له أن سيعود، ومرت ساعة وساعتان ، وشادي لم يعد بعد إليهم، فانشغل بالهم جميعًا عليه، وقلقوا وتساءلوا أين يمكن أن يختفي الطفل، وهو ما زال في السابعة من عمره، وإن ضاع فهو يجهل كيف يعود، ترك الجميع ما كان بأيديهم، وخرجوا للبحث عنه في كل مكان، حتى الأماكن البعيدة وصلوها، ولكنّهم لم يجدوا أثرًا  لشادي، كأنَّ الأرض انشقت وابتلعته، وأمه كادت أن تفقد صوابها، فالله وهبها لها بعد كلِّ هذه الأعوام، والآن شادي بعيدٌ عنها، الأفكار السوداء بدأت تُساورها لعلَّ وحشًا أكله، أو طيرًا من طيور الجن اختطفه!!، ولكن بعد كلِّ العناء والبحث طيلة النهار، رجعوا أدراجهم خائبي الأمل، فنهارهم الذي استهّلوه بإشراقةٍ وفرح، ها قد تحوَّل إلى سحابة من الألم، من التعاسة والحزن، فالغالي ضاع، فهل سيعود الفرح ليكوكب في ديارهم ؟؟
عاد الوالدان الى البيت خائبي الأمل، والحزن مرسومٌ على وجهيهما بالخط العريض، فبعد يومٍ بأكمله من البحث والعناء لم يجداه، وهكذا مرَّ يومٌ فيومان فأيام وهم على هذا المنوال، مع إطلالة كل يوم ينتظران أن يقرع الباب ويكون شادي، ولكنّهما لم يوفرا جهدًا إلاّ وبذلاه، كلُ يومٍ كان يتجول سمير في كل الغابات الموجودة في القرية علّه يجد الطفل، ظلّا على هذه الحالة شهرًا بأكمله، دون جدوى.
شادي طيلة هذا الوقت، وبعد أن ضلَّ الطريق، رأته امرأة كانت تجمع نباتات طبيعية من الطبيعة، أشفقت على هذا الطفل، فاحتضنته وأخذته معها إلى البيت، إذ أنّها كانت غير متزوجة، تعيش لوحدها في بيت أهلها، الذين تُوفيا منذ زمنٍ وتركا البيت لها.
كان الطفل ينعم بالسرور والهدوء مع شكران، ويومًا بعد يوم، زادت محبتها لهذا الطفل، وكل يوم كان شادي ينفرد بنفسه وينسج الخيوط، فقد كانت هذه هوايته في أوقات الفراغ، وشادي لم يعد الآن طفلاً، إنّه الآن أصبح شابًا، وأيُّ شابٍ، فقد كان لوحةً من الأناقة والجمال والرجولة، يعيش مع امرأةٍ أغرقته بحنانها وحبها، كان طالبًا متميزًا بين أترابه، في تحصيله، نباهته وسلوكه الحسن، ولكنّه ظلَّ ينسج الخيوط، يومًا عن يوم تكتمل اللوحة التي يصنعها، هذا الطفل أعطى معنًى جديدًا لحياة شكران، فبعد الوحدة التي تعانيها في بيتٍ مظلمٍ، أتى الآن من يشاركها فرحها، حبها، آلمها، أتى الآن الشخص الذي ستمنحه الرعاية، ستمنحه كيانها.
ووالداه طيلة هذا الوقت يظنان أنّه ميت، بعد أن جابا كلَّ القرية دون أيِّ نتيجة، فقدا الأمل من أن يكون بعد حيًا، وعاشا حياتهما بدونه، ولكنَّ الجرح في قلب سعاد كان يتكلم عن مدى المعاناة التي تعانيها، فالحلم المعسول الذي لوّن حياتها اضمحلّ، وسمير يتلوع في قهرٍ على الغالي، وشادي الآن ما زال ينسج الخيوط يومًا بعد يوم، فكل مرةٍ ينسج تنجلي أمامه لوحة أبهى وأجمل.
حياة سمير وسعاد أضحت لا قيمة لها، فأيُّ معنى لبيتٍ بدون أولاد، لأمٍ بدون دفء، ولقلبٍ لا يعرف للسرور سبيلاً، منذ الذي حصل، أبت الدموع أن تفارق وجهيهما، والأمل يعجز عن النداء، والقلب كحطام الرماد بات.
في أحد الأيام، دُق الباب، فما أن هرعت سعاد لتفتح الباب، وإذ بشابٍ مديد القامة، مستدير الوجه، ممتلئٌ بعض الشيء، وإذ به يقول لها "ماما"، في البداية  ظنّته شابًا قد أضاع الطريق، فقالت له: "إنّك على خطأ، لا بدَّ أنّك تائهٌ"، ولكنّه كرّر ثانيةً "ماما، ماما" حتّى شعرت بقلبها ينبض بسرعة، إحساسها يُنبئها أنّه ولدها، وشعورها لن يخدعها، إنّه شادي، كان ضائعًا فعاد، ضمّته إلى صدرها ودموع الفرح تنهمر من عينيها، وهو كذلك، الآن عادت الضحكات، عاد الأمل.
أعطاها وردةً من نسج خيوطه، وأعطى والده أيضًا واحدة أخرى، كلُّ الوقت الذي كان ينسج فيه، كان ينسج الورود إكرامًا لوالديه، هو البتّة لم ينسهما، لم ينسَ أيام طفولته وهو صغير، كم غمره والداه بحبهما، وهو الآن معهم، فبعد مرور كلِّ هذه السنوات على ضياعه، إنّهم الآن يرونه شابًا..... قد كبر.

مقالات متعلقة