الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الإثنين 29 / أبريل 13:02

أيام الكراستا السعيدة- عودة بشارات


نُشر: 30/04/08 07:38

حدثني أحد المحامين، في بداية عهده في المحاماة، إنه حين أخبر زبونًا عن أجرته في قضية ما، تساءل الزبون مازحًا، مخفيًا الاستهتار بمجهود المحامي: "ليش قديش كلفت الكراستا".
والكراستا، ولا أعرف مصدر هذه الكلمة حتى الآن، تعني المواد المستثمرة في مشروع ما، مثل الإسمنت والرمل والحصى وأحجار الطوب في البناء، والأخشاب في النجارة.. وبالإضافة لذلك يوجد الجهد الجسدي، فأجرة البَنّاء هي أجرة معترف بها، وأجرة النجار كذلك وأجرة الكهربائي.. وبشكل أو بآخر فالأجرة معروفة القيمة.
وهكذا تبقى الأمور سالكة حتى نصل أجرة الجهد الذهني. هنا تقع الطامة الكبرى، وموضع الداء هنا أنه لا يمكن القول، لدى الحديث عن الجهد الذهني، "من عرق جبينك تأكل خبزك"، خاصة في عصر المكاتب المكيَّفة. ومن جهة أخرى، من الصعب تقدير قيمة الجهد الذهني فعدا عن أن مقدار الإنتاجية تتراوح بين شخص وآخر، فإن نوعية الإنتاج الذهني متنوعة وأحيانًا متناقضة، والقيمة تختلف بشكل أساسي تبعًا لذلك.
مسيرة نضال الجهد الذهني لانتزاع حقوقه هي قصة طويلة، تميَّزت بالعنف والتمرُّد والوقاحة، حتى رضخ المجتمع ودفع مرغمًا ثمن الجهد الذهني وما ينتجه من مُنتَجات نافعة للناس، لأن المجتمع مهما استهتر بالجهد الذهني فقد كان في نهاية الأمر بحاجة له؛ في الشؤون القانونية، مثلا، لحل القضايا الداخلية بين الأفراد أنفسهم وبينهم وبين السلطة، فهذه القضايا الشائكة، في معظم الأحيان، تطلبت جهدًا ذهنيًا كبيرًا، ولذلك، ولو عن مضض، فقد دفع المجتمع لقاء هذا الجهد الذهني وهكذا حُفظ دور رجالات ونساء القانون، لأن دورهم أثمر في تحصيل (أو هدر) حقوق؛ ودفع المجتمع لقاء هذا الجهد أيضًا في الهندسة والتخطيط، فبدون المهندس والمخطط المعماري لا يمكنك الحصول على ترخيص لبناء البيت، وهكذا حُفظت حقوق المهندسين والمخططين؛ وأيضًا حُفظت حقوق المحاسبين، لأنه بدون جهودهم لا تقبل كشوف الدخل في الدوائر الرسمية.. لقد حُفظت حقوقُهم جميعًا مع أنهم لا يعرقون خلال عملهم، وأدى ذلك إلى الشعور بالمرارة والغضب لدى من دفعوا، مرغمين، فسُمعت الملاحظة البائسة: "يا عمي شو همّو .. طول النهار بشرب قهوة وشاي"، أو يقول آخر: "بخربش كلمتين وبوخذ السعر الفلاني".
على كل حال، مسيرة الجهد الذهني وقيمته في نظر المجتمع هي قصة تعكس تطور المفاهيم لنصل للتعريف الذي لا بد منه أن ما ينتجه الذهن، ما دام نافعًا، هو عمل، ويجب الاعتراف به كما اعترف المجتمع بالجهد الجسدي.
 
*إشكالات الجهد الروحي*
المعضلة الكبرى بدأت عند مناقشة مردود الجهد الذهني الروحي، ونكتفي هنا بتسمية هذا الجهد بالجهد الروحي، تمييزًا عن الجهد الذهني العام (مع أن هذا الجهد يحمل جانبًا كبيرًا من الجهد الذهني)، فهنا لا توجد لا "كراستا" ولا فائدة مادية ملموسة من هذا الجهد، كما هو الأمر لدى أصحاب الجهد الجسدي أو الجهد الذهني المباشر.
في الجهد الروحي هنالك إشكال. فأصحاب هذا الجهد، بطبعهم، يريدون أن يقدِّموا ما يعتمل في صدورهم، وحتى لو سُدَّت كل سبل الرزق أمامهم. بالعكس تمامًا، ليس فقط أنهم لا "يقبضون" لقاء جهدهم، فقد تجد شعراء وكتابًا يدفعون ثمنًا باهظًا نتيجة إبداعهم، يصل أحيانًا حدَّ السجن والنفي والتعذيب وربما الموت.
مهما فتّشتم فلن تجدوا ذلك الشاعر الذي "يتمعزز" قائلا إنه لن يقرض الشعر ما لم يحصل على المردود الملائم.. إذا وُجِد كائنٌ بشريٌ كهذا فسيجف من الانتظار ولن يأتي وقت فرج. 
والإشكال الآخر هو أن تقدير الجهد الروحي يحمل بعدًا ذاتيًا، فقد تجد تقييمَين لنفس الصورة وثلاثة تقييمات لنفس القصيدة وعددًا كبيرًا من الآراء المتباينة لتقييم نفس المقال، وهنا الصعوبة في تقدير قيمة المُنتَج الروحي.
ألإشكالات المذكورة أعلاه تبقى قابلة للحل بهذا الشكل أو ذاك، ولكن معضلة الجهد الروحي تكمن في الإجابة على السؤال: هل يمكن اعتبار هذا النوع من الجهد عملا؟. لقد رأينا سابقًا أن الجهد الذهني (في الشؤون القانونية والهندسية والحسابية) قد انتزع حقه قسرًا وحصل على الاعتراف به كعمل يُدفع لقاءه أجرًا، فما هو حال الجهد الروحي؟

يجب التعامل بمنتهى الحزم مع هذا الموضوع، فإذا اعتبرنا الجهد الروحي عملا، يجب أن يكون النتاج الروحي، أسوة بالنتاج المادي، نافعًا، وعندها سيحتاجه الناس وسيعمّر طويلا، "أما الزبد فيذهب جُفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" (قرآن كريم)، فإذا نفع هذا المُنتَجُ الناسَ صمد وعاش واخضوضرت أوراقه، وإذا لم ينفع الناس، اصفرّت أوراقه وتساقطت واندثر من الوجود.
وعندما نواصل مسيرة تعريف الجهد الروحي مفترضين أنه عمل، لا بد لنا أن نبحث عن الدورة الاقتصادية لنتاج العمل، لأن دورة الحياة لدى نتاج العمل، أي البضاعة باللغة الاقتصادية، هي دورته الاقتصادية، فالخِيار الموجود في الحقل له دورته الخاصة به، منذ أن يزرع حتى يجد نفسه على الموائد في البيوت والمطاعم، فإذا توقف الناس، مثلا، عن استهلاك الخيار، فلن تجد مزارعًا يزرع الخيار، ومن ثم لن تجد هنالك من يُسَوّقه، وربما ستُلغى مفردة "خِيار" من قاموس اللغة.
صحيح أن المجتمع، ممثلا بالدولة وبمؤسساتها الاقتصادية، مطالبٌ أحيانًا بالمشاركة في دفع تكلفة الخيار، من أجل أن يكون متاحًا للفئات الضعيفة اقتصاديًا، ولكن المجتمع لا يستطيع أن يدفع كل كلفة الخيار. وأكثر من ذلك: فالمجتمع لا يقبل، ولا يستطيع، أن يرسل للناس "بوكسات" خيار، تُستقبل بالحفاوة تأدبًا، وبعد أخذ الصور التذكارية، تجد هذه "البوكسات" طريقها إلى عربة النفايات.
ولذلك يظهر لنا هنا وبشكل جلي، أن العامل المقرر في الدورة الاقتصادية هو المستهلك، ومعذرة على توظيف لغة السوق في النتاج الروحي، فعندما يتوفر المستهلكون، ستبزغ الوسائل المناسبة لسد احتياجاتهم، فكما أن للخيار - نتيجة الإقبال عليه - دكاكين خاصة به وبأترابه من الخضار، فعلى النتاج الروحي، الشعر والقصة والرواية والمسرح والسينما واللوحات الفنية، أن يجد الدكاكين الخاصة به، وأن يجد مستهلكو هذا الإنتاج عنوانًا يقصدونه من أجل سد احتياجاتهم الروحية.
بدون هذه الدورة الاقتصادية لا مكان للحديث عن النتاج الروحي، الأدبي أو الفني، لأن العامل الأساسي، أي البطل بلغة السينما، غائب. والبطل هنا هو المستهلك. فمهما تعاطفنا مع الباعة المتجولين وخاصة من أبناء جلدتنا المغلوبين على أمرهم، فسنصل المرحلة التي نكف فيها عن اقتناء منتجاتهم، إذا لم تعد نافعة لنا.. في كثير من الأحيان يضيق خُلقنا بسبب كثرة الفانيلات والثياب الداخلية التي نشتريها منهم، وردًا على إلحاحهم، يقول البعض لهم: "يا عمي.. والله البيت ملي بالفانيلات!!" وتعاطفًا يضيف بعض البعض للبائع المغلوب على أمره: "بس إنت مش وجه فشل، خد حق الفانيلا، بس خليها عندك".. وحال باعة الكتب كحال باعة الفانيلات، "خذ حق الكتاب بس خليه عندك"، يقول، لكن في سره، المتعاطف مع الأدب والأدباء.. والفرق هنا أن الفانيلات حتى لو تكدست فهي مُنتَج نافع، إذا لم يكن اليوم، فبعد سنة، في أسوأ الأحوال سيتم نفض الغبار بها... أما الكتاب فمن سيستهلكه؟
 
*عودٌ على أزمة الخيار*
ونعود لأزمة الخيار النابعة من غياب المستهلك. فعندما يصرُّ المجتمع على إنتاج الخيار حفاظًا على هيبته وعلى تقاليده وعلى موقعه بين الأمم، ندخل الحلقة المفرغة. فإذا توقف الناس عن تناول الخيار، عندئذ تتساوى كل الخَيارات، في الجودة والنكهة، الخيارة الكبيرة كالصغيرة، يموت التنافس وتتعطل قاعدة الانتقاء الطبيعي، أي البقاء للأفضل. بالعكس، كلما كبرت الخيارة كلما كانت أفضل، فهكذا سنستهلك وقتًا أقل (للتعبئة). لماذا نتعب في التفتيش عن الخيارة الأفضل، ما دام لا أحدا يستهلكها؟ ولأنه لا يمكن لنا الاستغناء عن إنتاج الخيار لأسباب معنوية فسنستعيض عن الاستثمار في تحسين جودة الخيار، بالاستثمار في زيادة جمالية التغليف.. وليذهب الخيار ونكهته إلى الجحيم. آنذاك ستجد بوكسات مصممة بأجمل الأشكال، وتجد هنالك من يمسح الخيار بزيت خاص لزيادة لمعانه وبالتالي "نضارته".. لكن لا نكهة وحتى لا طعم خيار.
وهكذا الحال عندما لا تجد من يقرأ الكتاب وعندما لا تجد من يستهلك الثقافة، فستهبط المضامين، وسترتفع مكانة التغليف، من حيث الورق المصقول والطباعة الملونة، والأخبار المطنطنة، وسيُراوح الإنتاج الروحي مكانه. لا أحد يعرف قيمة هذا الكتاب أو قيمة غيره. فقط يعرفون جيدًا شكله المتميز. ويبدأ اللغو.. والروح لن تصبح هي نفسها وربما إذا نظرت إلى نفسها في المرآة فلن تتعرف على حالها.
على كل حال، المشكلة هنا مزدوجة، هي مشكلة المُنتِج، أي المبدع، وهي كذلك، وربما أكثر، مشكلة المستهلك، أي المجتمع. مأساة المُنتِج تكمن في الحقيقة أنّ لا أحد يطّلع على مُنتَجه وأن لا أحد يتفاعل مع ما ينتجه، ويبقى غريب الوجه واليد واللسان، في بيته وبين أهله.
أما المجتمع الذي تغيّر شكله، من الأقصى إلى الأقصى، في كل المجالات سوى في المجال الروحي الفكري، فسيجترّ نفسه ويعيد الشعارات نفسها والمقولات إياها، وهنالك شعور أن الروح توقفت في مكان ما وفي زمان ما، وعندما حدّثت هذه الهوة، أتت روح أخرى، من مكان ما، جاهلة وغالبًا شريرة، لتبرّر الجشع والتخلف. أما الروح المبدعة ففي طريق الهبوط، واحدة ترتفع وأخرى تهبط.
وهنا نصل إلى المشهد المقلق الذي لا يقبله عاقل ذو روح: مجتمع يتقدم بخطوات عملاقة في المجال المادي وفي بنائه الفوقي، الجهد الذهني، المرافق له؛ أما البناء الروحي فيجلس في الظل وينتظر الفتات، لعلّ أحد المارّة يلتفت إليه.
ونعود إلى الحلقة المفرغة، حين يهبط المجال الروحي، مضمونًا واتساعًا، ستضيق الأرض بالمبدع، وسيجد نفسه يقول كما قال قيس ابن الملوح: "بلاد الله واسعة.. غدًا أبدّل أحبابًا وأوطانا"، وقد يفعل ويهيم على وجهه.
أما هذا المجتمع الذي قيمة الروح فيه بائسة، فأين سيهرب من وجه التاريخ؟ بل كيف سيهرب من نفسه؟

مقالات متعلقة

14º
سماء صافية
11:00 AM
14º
سماء صافية
02:00 PM
13º
سماء صافية
05:00 PM
9º
سماء صافية
08:00 PM
9º
سماء صافية
11:00 PM
06:12 AM
05:31 PM
2.78 km/h

حالة الطقس لمدة اسبوع في الناصرة

14º
الأحد
16º
الاثنين
15º
الثلاثاء
14º
الأربعاء
17º
الخميس
16º
الجمعة
16º
السبت
3.77
USD
4.03
EUR
4.72
GBP
233747.42
BTC
0.52
CNY