الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 16 / مايو 03:01

هي وإن لم تكن... بقلم فؤاد خوري


نُشر: 28/04/08 19:51

هي الآن لم يلتأم جرحها بعد، الجرح الذي ظلَّ يناجيها طيلة هذه السنوات، أبى أن يظلَّ صفحةً مطويةً، أتنسى ما عانت وهي طفلةٌ، في مقتبل عمرها، الأمر الذي يزيدها ألمًا وتعاسة يومًا بعد يوم، فأمثالها سيظلُّ عارًا على المجتمع، الصارم بحقها، الرافض لها أن تلتمس عذرًا، أو تقدم تفسيرًا لما حصل، جميع من عرفتهم وضعوا اللوم عليها، لكن ما ذنبها إن كان هو أقوى منها واستطاع أن يرغمها على فعل ما لا ترغب.
منذ طفولتها تذكر أنهم تربوا سويةً، ولعبوا مع بعضٍ، وكانت الألفة والمودة الموحدة بينهما بعيدة المدى، الأمر الذي جعلها تثق بها، وتمنحه كلَّ ما كانت تمنح لنفسها، فلا فارق بينهما بنظرها، هكذا دومًا كانت تفكر، إلا أن كبرا سويةً، هي كانت متفوقةً في المدرسة، ولكن هو لم يمل إلى العلم، بل كان يهوى كرة القدم وطموحه أن يصبح لاعبًا، هذا ما حلم به دومًا.
بعد أن أنهت الثانوية أكملت تعليمها في الجامعة، أمّا هو فقد اهتم بأخبار الرياضة، أحبَّ الكرة والملعب، العلاقة التي كانت تربطهما علاوةً على الجيرة، فالصداقة والمحبة التي أكنّها الواحد للآخر كانت تدّل على ذلك.
ما قد حصل كان مفاجئًا من شخصٍ منحته أسمى ما تملك من صفات الطيبة، والحنان، كان بعيدًا عن صديقٍ وزميل عهدته طيلة سنوات، ويا ليتها لم تعرفه أبدًا... يا ليتها لم تثق به ولم تعطه... يا ليتها أضنت عليه، واعتكفت القسوة والجحود سبيلاً، لكن هي قط لم تعتد على ذلك تجاه أيِّ إنسان، أسوف تكون مجحفةً بحقِ من آنست ورفقته سنين طويلة؟ أتكون ناكرةً عهد الطفولة والصبا وغير أبهةٍ بهما، البغض لم يكن من قاموس مفرداتها، ولكن منذ ما حصل، سوف تتشبث به، وسيكون الألف والباء لمن هم أمثاله، أو يفكرون بما كان يفكر، وإن لم يبوحوا بذلك، ستصطاد مخالبهم الشائكة في غياهم ليلهم، سوف لن تصمت وتحجب نفسها، وستتحدى إنْ لزم الأمر، من ظَلمها، ومَن دافع عن هذا الظلم، بتمسكه وتقاليد مجتمعه، التي تنصاع لقلوبٍ غاب عنها الحنان، وفارقتها الرحمة.
 لن تقف كالمسكينة في حربٍ تُشنُّ ضدها، وهي معها ما يحميها، ستفتح الأوراق وتبثها ولن تبعثرها، لن تخافَ، ولِمَ، إنَّ إيمانها سيتحدى جميع الأعاصير، وبقوتها لن تقوى على هزمه.
ها هو الأمل لم يبتعد عنها، ورغم ما يعتقد المجتمع ويظن، ستحارب، وستنال ما تبتغي نفسُها وما تريد، حتّى ولو كان مرفوضًا، المهّم ألاّ تستسلم للهزائم التي تتوالى عليها كالصاعقة.
إنّها الآن تدرس في كلية الحقوق، الألم احتَّل فسحةً من حياتها، لكن أنّى له أن يُبعدها عن الحقوق، طموحها أن تصبح محاميةً تدافع عن كلِّ فتاةٍ مرّت بنفس الحادثة التي مرّت بها.
 سترفع هذا الشعار عاليًا، وبأيديها ستعُلن النصر على شُبانٍ، ظنّوا أنَّ المتعة التي يشعرونها ستكون رخيصةً أمام فتياتٍ متحديات، مناضلات، شريفات، أبينَ الظلم والاضطهاد من نسرٍ يحلق في سماء حياتهم، حصلوا على ما ابتغوا هؤلاء الشُبان، لكنَّ العار سيلحق بهم، وكلَّ ما ظنوه، سينقلب ضدهم يومًا، عندها سيكون الموتُ حتفهم، لا حتف من ظلموا.
رمت سعاد بهذه اللحظات السعيدة التي قضتها معه أيام الطفولة، وجرّدتها من الذاكرة، وجعلت مصيرها النسيان، وأبدًا لن تتوق وتشتاق لأيامٍ مضت وكانت جميلة، النهاية ما زالت بعيدة، وإن لم تجدُ من يحترمها ويصونها ويحبها لشخصها، لا لغرائز وحشٍ يثور في الجسد، لا لحبٍ يأبى أن يظل رهين الأرق، فليكن بالورق، بالدموع، ولكن أن لا يسبر أكثر، فمصيره حينها سيترك وصمةََ عارٍ لا تُنسى.
هي الآن تعرفت على شابٍ في الجامعة، يدرس الصحافة، كثيرة هي المرات التي كان يحدث فيها اختلاطٌ بين فرعي الحقوق والصحافة، الأمر الذي جعلها مرةً تنظر إليه بتعمق أكثر من المعتاد، شعورٌ جميلٌ يناجي قلبها، هو كذلك، فالأمر لم يكن محضَ صدفةٍ، فالمحاضرات كان لها تأثيرٌ لذلك، فهي التي كانت تجمع مقعده إلى جانب مقعدها، وبعد انتهاء الدوام يمشيان في الحديقة، ويتكلمان، ويتأملان في هذا العالم الممتد أبدًا،  رائحة الورود تبعث في نفس كُلٍ منهما حبًا للآخر، وشوقًا للرؤيا، ووعدًا بالإخلاص...
ما يتردّد في أن يتكلم معها عمّا يخالج نفسه من ألمٍ، تحت نخلةٍ يجلسان، وها هو أيضًا يملك حكايةً، يملك جرحًا، ليست وحيدةً، وهذا كافٍ لكي تشعر بالأمل.
لكم حُرِمَ من عطف الأم وهو صغير، أمه توفيت وهو في الثالثة من عمره جرّاء مرض خبيث تفشى في أنحاء جسدها، ووالده تزوّج من أخرى، ولكن هذه عاملت الولد بقساوةٍ، لم تحببه يومًا، هي من لم تُتح الفرصة لذلك، ظلَّ أسير العذاب والصبر طوال جميع هذه السنوات، سميرة زوجة والده، كانت كل ما تبتغيه هو السلطة والنفوذ، أن تكون هي كل شيء، فهذا الولد سيكون عائقًا في هذا الطريق، عائقًا أمام الميراث الذي تتمنّى أن يكون لها وحدها، دون أيِّ منافسِ.
لكم من مرةٍ ضربته وهو صغير، أينسى صراخها واحتقارها له، أينسى المعاملة الجافة، والازدراء الذي كانت تمقته به، خطأ في الاختيار ها هو الآن يحصد نتائجه، فأباه أغراه جمالها وحلاوتها، دون النظر إلى قلبها وما يملؤه، لم يكن يقوى الوالد على ردعها، فما تريده يحصل، ولا يحصل غير ما تريد.
هي الآن أصبحت في عداد الموتى، ففي احد الأيام وبينما هي تمسح البيت والدرج، وإذ بها تفقد توازنها وتقع من أعلى الدرج إلى أسفله وتُصاب بضربة قوية في رأسها، وجرّاءها تفقد الحياة، لكن سامر رغم الاذى الذي ألحقته به من معاملة  سيئة، إلاّ أنّه حزن وبكى، وانهمرت دموعه عليها، فهو كان يدرك أنّها رغم كلِّ الشر البادِ عليها، إلاّ أنَّ قلبها لا يخلو من الطيبة، ولكن للأسف لم تستطع إظهاره.
بعدما حدثّها بكل هذا، أقبلت الشمس على المغيب، وسعاد وسامر ما زالا ينظران في نجوم السماء، كأنهما يحاكيان القمر والنجوم، يا له من منظرٍ يبثُ في النفس جذلاً، بعد ما مشوا في الشوارع، أخذ الظلام يحلُ شيئًا فشيئا، وهما ليس بودهّما أن يفترقا، يا ليت لو يحّلق بها في سماءٍ لا تعرف إلاّ هما.
إنّهما الآن في السنة الأخيرة، سنة التخرج، قريبًا ستنال شهادة الحقوق، عندها ستنادي بأعلى صوتها وتدافع، ولن تعتكف الصمت، وهو سيبقى كما هو، لن يتغير فيه شيء، إلاّ أنّه سيظهر على حقيقته، التي تشك بها سعاد، فهل يا تُرى سيكون كمن سبق أن مرَّ في حياتها، أم سيكون الوجه الآخر؟
بخطوات واثقة تمشي سعاد وتتوجه نحو مكتبها، فهي الآن محاميةٌ،  ولن يمنعها شيءٌ من أنْ تحامي عن الحق.
في أحد الأيام، وُكّلت إليها قضيةٌ من فتاةٍ قاصر لم يتعدى عمرها الثامنة عشرَ، هذه الفتاة تعرضت لعملية اغتصاب، تمامًا كما الأمر الذي مرّت به يومًا...
قرعت مكتبها هذه الفتاة، وأخذت تشكو لها عن الوغد الذي جرّدها من شرفها، وحرمها أسمى ما تملك، وهو، من سيقول له ماذا فعلت، بل سيهنئونه ربّما، وعلى الحتم  لن ينال عقابًا.
 سعاد الآن في المحكمة بانتظار أن يأتوا بالمجرم الذي ارتكب ما هو مشين، وراء مكتبها تجلس، ستتمتع وهي تصدر الحكم، فالآن تسلمت مركز قاضية، ستدرس وتفكر بالموضوع، والاهم أنّه سيصل بعد قليل، أيًّا كان، المهم أنّها قريبةٌ هذه اللحظة.
 لكم تفاجئت وكاد يُغمى عليها، حين رأته، نعم، إنّه سامر الذي حدثّها عن الحب، والإخلاص، والصبر، هو، لا يُعقل؟ بادئًا لم تُصدق ما تراه عينيها.
هو نفسه من سامرته الليالي وحلمت به حبيبًا، ها هي الآن تكشفه ومخالبه المفترسة التي ألمّت بهذه المسكينة الأذى الذي عانت منه وتعاني...
أيعقل أن يكون هو؟ لكم كانت بلهاء وساذجة حين صدقته، يا لسذاجة عقلها وبساطتها، ولكنها الآن كشفته قبل فوات الأوان، والعقاب الجسيم لن يفت منه، ولا حتّى بحق الحب الذي أكنّته له، ستجعله يعاني السجون طوال عمره، هذا ما يستحق،  أخذت تكتب " الحكم على سامر سالم بالسجن مدة خمسٍ وعشرين عامًا "، هذا جزاءه وهذا قليلٌ على أمثاله، والحب سيُمحى كما انمحى سابقه.
 نصيبها من الحياة خيبات أملٍ متلاحقة، ونصيب الحياة منها أنّها حظيت بزهرةٍ حاولت جميع الأشواك أن تدنو منها، لكن لم تفلح في ذلك، فبقيت هي الجميلة، هي العذبة، أمّا الأول فالله سيعاقبه، وما لها إيمانٌ إلاّ به، والثاني حتفه أن تحويه سجونٌ..... تليق بأمثاله.

مقالات متعلقة