الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الإثنين 29 / أبريل 16:02

دموع الندم - بقلم: جبر أبو السرايا


نُشر: 04/08/08 09:57

كما في كل صباح، استيقظت باكراً مع إشراقة الشمس، فتحت شباك غرفتها لتستنشق هواء نقياً ولتسمح لأشعة الشمس بالدخول، ثم غيرت ملابسها وتناولت القليل من طعام فطورها الذي تعده بنفسها، وحملت حقيبتها وهمّت بالخروج، لولا أن صوتاً أجش غليظ لطالما تمنت له أن يندثر أو يتلاشى قد أوقفها. ودون أن تلتفت إلى مصدر الصوت سمعته يقول: لا تتأخري اليوم، فقد حدثني شاب بالأمس وطلب يدك، وسيأتي الليلة ليطلبك رسمياً، يجب أن تكوني مستعدة.
سمعت كل ما قاله، كان الخبر كالصاعقة بالنسبة لها، لكنها لم تتفوه بكلمة، بل خرجت بكل هدوء والحزن يكسر قلبها. من أين أتتها هذه المصيبة، أين رآها ذلك الشاب ومن يكون يا ترى، لا بد أن لوالدها يد بالموضوع، لا بد انه يريد التخلص منها، ليته يخرج من حياتها، ليتها تستطيع أن تخرج من حياته، تمنت لو أنها تعود من المدرسة هذا اليوم، فتجد أن النار قد التهمت البيت بمن فيه، بل تمنت لو أن النار تلتهم مصيبتها العظمى، تمنت أن تعود فلا تجد والدها، فتنتهي من الظلم والقهر والحياة البائسة.
إنه لم يكن كذلك قبل رحيل والدتها، إنها تذكر تلك الأيام التي قضتها بين أحضان أمها والى جانبه، كان يحبهم إلى ابعد الحدود، وكان يعمل على تحقيق كل رغباتهم حتى بعد رحيل أمها، كانت تشعر بحبه وحنانه وعطفه عليها، إنها تذكر كيف حضنها ذات يوم بعد وفاة أمها وقال لها: آه يا عذابي، آه يا عذاب السنين، أنت صورة أمك، كم أنا خائف عليك وعلى مستقبلك، كم احبك...
كانت كلماته رقيقة عذبة، شعرت بصدقها ومدى عذوبتها، لكن ما الذي غيره بعد أن كبرت، وما الذي يجعله يتخلى عنها بهذه السهولة.
آه ما أصعب أحكامك أيها القدر، آه ما أقساك، لا بد أنك تريد التخلص مني كوالدي، بل تريدني أن أعاني، لن أعاندك هذه المرة، وسأمشي على الطريق الذي رسمتموه لي، سأوافق على الزواج من ذلك الشاب، فقد أتخلص من الظلم، قد تكون حياتي أفضل، لا بد أن تكون كذلك، فلا أعتقد أن هناك ظلم أكثر من أن يُكره الإنسان على ما لا يريد.
أمضت نهارها وهي شاردة حزينة، تفكر بما ينتظرها بعد قليل، ولم تدر كيف انتهى الدوام في المدرسة، وعادت إلى البيت ودخلت غرفتها التي أحبتها أكثر من أي شيء في عالمها، فعلى الرغم من الجدران الأربع التي تحيط بها، كانت تشعر براحة غريبة، بل كانت تشعر بالحرية داخل غرفتها، كيف يمكن للسجين أن يشعر بالحرية وهو مقيد وراء القضبان، استلقت على سريرها ودموعها تسيل على خديها، والساعات تسير ببطء متثاقل، أو ربما هذا ما بدا لها لأنها متشوقة لمعرفة ما يختفي وراء جدار الزمن.
بدأت الشمس بالرحيل شيئاً فشيئاً حتى اختفت، وهي لا تزال مستلقية تنظر إلى السقف، وفجأة وبينما هي كذلك، يُفتح الباب ويدخل والدها قائلاً: سيأتي الشاب بعد قليل، فاستعدي.
قامت بدلت ملابسها وجلست تنتظر تلك اللحظة التي حتماً ستغير حياتها. وبينما هي جالسة تتقاذفها أمواج الفكر، تسمع صوت جرس الباب، ومن الأصوات المنبعثة من خارج غرفتها، أيقنت أنه الشاب المنتظر، ولم يمضي كثير من الوقت، حتى سمعت صوت والدها ينادي عليها طالباً القهوة، قامت ملبية وقلبها يخفق بقوة وقدماها لا تكادا تحملانها، دخلت بعد لحظات بصينية القهوة، وضعتها على الطاولة دون أن ترفع رأسها كمحاولة لمعرفة من يكون الشاب، أو حتى كيف يبدو.
عادت إلى غرفتها وجلست بهدوء دون أن تفكر بشيء، وفجأة يدخل والدها ويجلس إلى جانبها قائلاً: إن هذا الشاب ويدعى "صالح" تقدم لطلب يدك، وقد سألت عنه، إنه شاب ذو أخلاق جيدة، فما أنت قائلة؟
هي لم ترَ بوالدها ذلك الأب الذي يبحث عن مصلحة ابنته، بل رأت فيه ذاك الإنسان القاسي الذي لا يبحث إلا عن الخلاص منها، نظرت إليه بتحدٍ وقالت بنبرة واثقة: إني موافقة...
مضت لحظة صمت والأب ينظر إلى ابنته، كأنه يراها لأول مرة، أو كأن موافقتها كانت مفاجأة بالنسبة له، ثم قام وأخبر الشاب بموافقة ابنته، وطلب منه أن يأتي برفقة والديه ليتم الاتفاق على كل شيء.
وبعد أيام قليلة تم الاتفاق وتحديد الموعد، وكان يوم من أسعد أيام عمرها، فبهذا اليوم ستنتقل من حياة البؤس إلى حياة ربما تكون أفضل، جلست تنظر إلى أرجاء البيت، بينما الجميع منهمك بالتحضير لاستقبال العريس الذي سيأتي بعد قليل ليأخذ عروسه، وفجأة تلتقي عينيها بعينا والدها الذي كان يقف مراقباً بصمت، وترى دموعه تسيل، كأنه يودع قطعة منه، وتسأل نفسها: لمَ يبكي، أهي دموع حزن على فراقي، أم أنها دموع فرح لتخلصه مني، أم أنها دموع التماسيح الخالية من أي أحاسيس، لا بد أن قلبه يرقص فرحاً، فهو لن يراني بعد اليوم. ثم تتنهد: لا داعي للدموع يا أبي، فلن أصدق أنك حزين على فراقي...
وينقطع حبل أفكارها على صوت النسوة يطلبن منها التهيؤ للذهاب مع زوجها، قامت بخطوات ثابتة مترددة، فعلى الرغم من كل ما تعانيه في هذا البيت، إلا أن لها ذكريات لا تزال تسكن روحها، ذكرى تلك الأيام التي قضتها برفقة أمها وأبيها عندما كانت طفلة، وتنزل دموعها رغماً عنها.
انتقلت لتعيش إلى جانب زوجها، لقد أحبته بالفعل، أحبته لدرجة أنها أقرًَّت أن والدها قد أحسن اختياره زوجاً لها، وهو أيضاً أحبها وأعطاها أغلى ما لديه، فهي لم تكن تطلب شيئاً إلا وحصلت عليه.
مرت الأيام وهي تعيش إلى جانب زوجها بسعادة، متناسية والدها لولا انه كان يتصل بها بين حين لآخر، وذات يوم وبينما كانت في المطبخ تطهو، دخل زوجها على غير عادته في مثل هذا الوقت، ألقى السلام وجلس دون أن ينبس ببنت شفة، تركت الطهو وجلست إلى جانبه مسائلة: لمَ أنت منزعج، ماذا هناك؟
أخذ ينظر إلى عينيها مباشرة، ثم قال والحزن بادٍ في نبرات صوته: تلقيت خبراً مزعجاً. ثم يتنهد متابعاً: إن والدك يرقد في المستشفى بحالة سيئة وهو يطلب رؤيتك بأسرع ما يمكن...
سمعت ما قاله، ودون مبالاة أجابته: سنذهب فيما بعد...
فقاطعها قائلاً: أقول لك أن حالته سيئة وأنه يريد رؤيتك...
- وأنا قلت لك أننا سنذهب فيما بعد...
فصمت وأخذ يحدق بها كأنها ليست زوجته، كأنه يراها لأول مرة، فقالت مستغربة: ما بالك تنظر إلى هكذا؟!
- أحاول أن أتأمل الإنسانة التي اخترتها لتكون نصفي الثاني، أحاول أن أفهم كيف يمكن أن تكوني قاسية إلى هذا الحد، كيف يمكنك أن تجلسين ووالدك على حافة القبر يطلب رؤيتك، من أين أتيت بهذه القسوة، وقد أحببت فيكِ طيبة قلبك، أنت طيبة القلب، وإنك لترتدين قناعاً ليس لك، وإنه سيزول، لكني أخشى أن يزول بعد فوات الأوان، فيأكلك الندم.
ثم يقوم متجهاً إلى الباب وهو يقول: افعلي ما ترينه مناسباً، أما أنا فسأذهب لأراه...
وما كاد يخطو عدة خطوات حتى طلبت منه أن يتوقف، نظر إليها وإذ بعينيها قد اغرورقتا بالدموع وهي تقول: انتظر، سأذهب معك...
فقابلها بابتسامته الشفافة المعهودة، وانطلقا إلى المستشفى، اتجهت نحو غرفة والدها بعد أن عرفت مكانه من الاستعلامات، كانت ترتجف كأنها ستراه لأول مرة في حياتها، وبينما كانت تحاول الدخول قابلها طبيب يخرج من الغرفة، سألته عن حاله فقال الطبيب: هل أنت ابنته الوحيدة ؟
فهزت رأسها، فقال: آسف، لقد انتظرك طويلاً، لكن الموت كان أسرع منك إليه، بقية العمر لك.
وقفت تنظر إلى الطبيب كأنها لم تسمع شيئاً، أيمكن أن يموت والدها، بكل قسوته وخشونته يموت، أيمكن أن يرحل؟
ويتابع الطبيب حديثه وقد أخرج رسالة مغلقة من جيبه: يبدو أن أباك كان يشعر أنه لن يراك ولن يحدثك، لكنه كان واثقاً من قدومك، لذا فقد أعطاني هذه الرسالة وطلب مني أن أسلمك إياها عند قدومك.
أخذت الرسالة واتجهت إلى مقعد قريب، جلست والى جانبها زوجها، ثم فتحت الرسالة وأخذت تقرأها: " ابنتي العزيزة، كان بودي أن أحدثك قبل رحيلي، لكنها مشيئة الله والقدر الذي ليس لنا عليه سلطان، اليوم أودعك ابنتي الحبيبة وصورتك تسكن قلبي، أعرف إنني قسوت عليك كثيراً، وربما كنت مخطئاً بذلك، إنما السبب يعود إلى حبي لك وخوفي عليك من غدر هذ الزمان، فعندما كانت أمك على قيد الحياة كانت تحمل معي أعباء تربيتك، وكنت صغيرة حينها، لكن بعدما كبرت ازداد خوفي عليك ودفعني لأن أعاملك بالقسوة، يجب أن تعلمي يا ابنتي أنني لم أحب غيرك، وأنني قد ابتعدت عن كل ما في الدنيا من ملذات من أجلك، ولتستريح والدتك وترقد روحها بسلام، لقد تركت لك يا ابنتي كل ما لدي، فليس لي في العالم سواكِ، واليوم أرحل تاركاً لك كل شيء. لقد خطت هذه الكلمات والتي ستكون آخر ما أخاطبك به، لتعلمي أنني ما قسوت عليك يوماً إلا من أجلك، ولأني أحبك، فأرجو أن تسامحيني، وأن تطلبي لي الرحمة، الوداع يا ابنتي الغالية، الوداع... "
قرأت الرسالة وأخذت تستعيد صورة والدها، لقد كان يحبها بالفعل، وقد كانت الدموع التي ذرفها يوم زفافها دموع صادقة، لقد كان حزيناً لفراقها، وقد اكتشفت متأخرة أنه بالفعل كان يقسو عليها لمصلحتها، وأنه لولا قسوته في بعض الأحيان، لكان الندم يعتصر قلبها، أخذت تبكي بشدة وبحرقة، فقد شعرت فجأة أنها منكسرة وأنها ستشتاق إليه ولقسوته، لكن بعد فوات الأوان ...
حضنها زوجها الذي بكى تأثراً، وقال لها بصوت حزين حمل كل الرقة: ليكن إمانك بالله قوياً، ولتطلبي له الرحمة، فهذا آخر ما طلبه منك...
رفعت رأسها وهي تقول: سامحني يا أبي، فقد أخطأت بحقك.
ثم ترى صورة والدها وهو يحملها مبتسماً عندما كانت طفلة: رحمة الله عليك يا أبي، ولترقد روحك بسلام...

مقالات متعلقة