الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الثلاثاء 07 / مايو 04:01

أسباب التعاسة/ بقلم: كميل فياض

كل العرب
نُشر: 28/09/13 14:22,  حُتلن: 09:23

كميل فياض في مقاله:

ربما لا تزال المخاوف والرغبات اقوى بكثير منا بكل مستوياتها

المواجهة الجذرية لكل اسباب التعاسة ما ظهر منها وما بطن يُترجَم في السعي لاقتلاع الانا من الوعي من خلال نشاط تأملي جدلي تحقيقي تحرري

كثر الناس تخلفا هم الاغنياء ماليا وتملكيا وغرضيا حيث لا تتجاوز سعادتهم سعادة الابقار والخنازير والاغنام في مراعيها ومعالفها الغنية بالمحسنات والمنشطات الفيتامينية 

التعاسة ناتجة عن رغبة في شيء غير متحقق ، وربما هو غير قابل للتحقق .. الاصرار على السعي في سبيل غير الممكن ، يعود الى ادمان التفكير في غير الممكن خارج التفكير .. هو غير ممكن سوى داخل التفكير المجرد الذي لا نكف عن اشعال نار الرغبة تحت حطبه وقشه واوراقه الشعورية ،في مقام متراوح بين عاطفة انسانية مثقفة او متثاقفة ، وغريزة بهيمية همجية .

فقد تتحرك فينا رغبة لفعل خير ، لمشروع اجتماعي ، لعمل انساني .. لكن حواجز موضوعية تحول دون ذلك ، او عوامل غيرية محبطة قصدا ..النتيجة تعاسة ، شعور بالهزيمة والفشل .. اليس كذلك ..؟ ليس الامر مقصورا على رغبات تملكية وغرضية بالذات ، لكن مثل هذه الرغبات هي الغالبة وهي السائدة .. فالتعساء جراء عدم القدرة على فعل الخير ، وعدم الوصول الى اهدافهم السامية ، هم اقل عددا بكثير من المُحبَطين التعساء جراء عدم وصولهم لاهدافهم التملكية الغرضية .. معظم الناس غرضيون طامعون بالغنى الصرف مادي ، وعلى حساب القيم المعنوية المختلفة .. قلة هي التي تحاول ان توازن بين المطلبين ، المعنوي والمادي في حياتها .. بينما الندرة تسعى لتفويق الاهداف القيمية والروحية والعقلية على كل شيء دونها .

لو شئنا بناء مقياس للتطور على اساس هذا الطرح .. لوجدنا اكثر الناس تخلفا هم الاغنياء ماليا وتملكيا وغرضيا ، حيث لا تتجاوز سعادتهم سعادة الابقار والخنازير والاغنام في مراعيها ومعالفها الغنية بالمحسنات والمنشطات الفيتامينية . غير ان هناك اغنياء ينضمون الى فريق الندرة التي تفوِّق القيم على الاغراض .. وفضل هؤلاء اكبر ، اذ انهم عبروا امتحان المغريات وفازوا بمقام الزهد عن اقتدار .. لكن ماذا لو كان مقام الزهد غاية انانية يقصد منها ( التقدسن ) اي الظهور بالقداسة ..! ففي دخائل بعض هؤلاء المثاليين طموح خفي للتقدس في نظر الغير .. وهنا لا بد من الخروج من الكلام التقليدي حول الموضوع للانتقال الى مستوى آخر .

المواجهة الجذرية لكل اسباب التعاسة ما ظهر منها وما بطن ، يُترجَم في السعي لاقتلاع الانا من الوعي ، من خلال نشاط تأملي جدلي تحقيقي تحرري .. فالانا هذا فينا هو دائم السعي للاغراض الانانية الخفية والظاهرة على السواء ، وسواء الاغراض الممكنة وغير الممكنة ، " الراقية " والوضيعة . والا لماذا يشعر ( الخيِّر ) بالتعاسة حين يفشل في عمل الخير ، او حين لا يستطيعه ..؟ بل لماذا اصلا يسعى المرء لفعل الخير ..؟ أسأل – دون تقليل من اهمية ووجاهة وقداسة فعل الخير – غير ان الانا الشخصي التميُّزي عمومًا هو الذي يقف وراء عمل الخير .. في اللحظة التي يصل التحقيق الى الاشراق والاستنارة بالوعي الاساس الثابت والتجاوزي فينا ، الذي نسعى اليه جميعا – بوعي وبغير وعي – في هذه اللحظة يختفي الانا المتميز المحدود تلقائيا ، وتعم النعمة والراحة ارجاء النفس ، دون حاجة الى اثبات شخصي للغير ، وبلا رغبة خفية او علنية باعتراف الآخرين بنا . ونكتشف ان الجميع ينتمون الى الماهية والهوية ذاتها ، وان غاب ذلك عنهم ..لا فرق بين شخص وآخر في ذلك .

وهنا يبدأ سعي جديد مختلف عما عرفناه حتى تلك اللحظة ، لا في سبيل تحقيق الشخصية القيمية ، او القديسة ، طبعا هذا عوض عن عدم السعي في سبيل الاغراض المادية لذاتها فوق ما نحتاجه طبيعيا وموضوعيا في الحياة .. انما السعي للكشف ادوم واطول للوعي الاساس القائم فينا ، كمطلق وكهوية وبداهة ازلية . ما يعبر عن حالة طبيعية لنا في الوجود ، قبل انغمارها بشتى النزعات والرغبات والمخاوف ، على طريق التطور التاريخي المنحرف والمبتعد عن حقيقتنا ، مرة بالعقائد ومرة بالفلسفات ومرة بالعلوم الخ .. قبول اللحظة الراهنة والرضى بها في حضور الوعي الاساس هو المقام الطبيعي لكل انسان ، ملَّ من التعاسة وملَّ من تبني اسباب التعاسة في وعيه .
رد العادة التفكيرية وترسباتها الغرضية :  لكن كيف نقبل اللحظة الراهنة مع تلك الوسوسة الملحة ، او الناشئة فجأة لأخذنا لغرض ما ، لفعل ما - سواء كان الغرض او الفعل في المتناول ام لا ، راقٍ ام وضيع - مما يجبرنا ان نرفض اللحظة الراهنة ، فيخرجنا من هدوئنا لنكتشف انه هدوء وهمي .
ربما لا تزال المخاوف والرغبات اقوى بكثير منا بكل مستوياتها .. حتى يبدو لنا احيانا من فرط تزاحم المخاوف والرغبات فينا ، اننا مجرد كتلة متوترة من المخاوف والرغبات لا اكثر . وهذا الحال المفعم بالشك والضعف امام خليط مشاعرنا ، هو الذي يدفعنا ، او ينبغي ان يدفعنا دائما ، طالما نحن على هذا الحال ، للبحث بعقلانية وتحقيق في ماهية وجودنا .. والا فالعبثية سيدة انفسنا ، والتعاسة هي النتيجة المرافقة .

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net 


مقالات متعلقة