الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الإثنين 29 / أبريل 01:01

ضمير ميت في رحم الحياة


نُشر: 16/04/08 07:45

كان واقفاً فوق صدر الأوراق المعذبة كوثنٍ متعجرف صامت ، ومهما استجديته بأن يجيبني إلا وصفعتني دهشة تجاهله لبركان إحساسي !
هذا هو حال يراعي بعد ان تجمدت دموعه في طريقها للتعبير عما يخالجها من أسى ...وتفاجأتُ كثيراً من دفاتري التي ارتدت ملابس الحداد في الفترة الأخيرة ...
لقد صعقني ذاك التيار الكهربائي حين اعتراني وللمرة الاولى في حياتي شعور بالعجز عن التعبير ، عن التفكير ، لا وبل عجزٌ عن البكاء ايضاً..
هي الزهور كانت ترقص في حضني عند اقترابي من غرفته لعشقها مثلي " كسارة البندق " لتشايكوفسكي ، تلك التي جذبتني وأمسكت بتلابيب روحي لتحملني كيد ماردٍ في عجلةٍ من أمره ، لأغدو عصفورة صغيرة مسلوبة الإرادة أمام نار الحزن التي اشتعلت بعيني ذاك الشيخ الراقد بأحد بيوت المسنين وحيداً ومسافراً طوال اليوم من مطار فيروز صباحاً لسماء بيتهوفن ، وعائداً مع " كسارة البندق " و " بحيرة البجع ".
كنت بصراحة أبحث عن سبق صحفي  أو خبر اكتبه ، ولكم أحسست بوضاعة ما افعل حين قابلت ذاك العجوز الذي تجاوز الثمانين من عمره ، فرأى الكاميرا وآلة التسجيل بيدي وابتسم بسخريةٍ  قائلاً :" آنستي ، نحن لسنا فئراناً للتجارب هنا ، ولا مادة دسمة للصحافة ، أنحن رقم آخر بالنسبة اليكم ؟"
لا انكر أني صدمت من هذه المواجهة التي قلبت موازين الفكر والشعور لدي معاً ، فما بال هذا العجوز يهاجمني وأنا لم أنطق ببنت شفة قط ؟
استندت الى الجدار من هول الصدمة ، ولم اعرف ما اجيبه ، لكن وفي تلك اللحظة تحديداً لفت انتباهي لوحات مرسومة لوجوه بشرية ...تلك التي عرفتُ فيما بعد أنها لأبنائه، وعرفتُ حينها أن هذا العجوز رجلٌ غير اعتيادي وان هنالك سرا بتصرفاته الغريبة ، ورميتُ بآلة التسجيل والكاميرا جانباً واعتذرت منه بشدة ، وجربتُ المغادرة ، وإذ بيده تمسك طرف قميصي الذي ذاب ألماً من حرارة دمع ذاك العجوز!
أشار بعينيه أن اخفض تلك الموسيقى وأجلس بجواره...وعرفتُ حينها أن تجاعيد ذاك الوجه الوسيم وارتجاج تلك اليد ما هي سوى آثار آلام خفية وجروح  تنزف حتى تلك اللحظة...
" مضت سنوات وأنا صامت أخفي الدمع وأعلقه فوق الحان راقية لطالما عشقتها في صغري..كانت ألواني تتراقص مبتهجةً فوق منصة كل لوحة جديدة ارسمها ..وكانت معارضي ناجحةً ، حتى بدأتُ ألاحظ اختفاء بعض اللوحات هنا وهناك ، وإذ بي اكتشف أن أولادي يسرقون بناتي ويبيعوهن دون علمي .."
بابتسامته الصفراء وعينيه الحزينتين توجه الي طالباً أن أدون قصته وانشرها دون أن آتي على ذكر اسمه.. هو رسامٌ حساس وجريء ، رفض بيع لوحاته المدهشة لتجار غربيين حاولوا شراء اسمه ، ضميره  وفنه ، وما كان من رفضه سوى ان اتهم بخلل في قدراته العقلية وطرده من بيته ، والاستيلاء على لوحاته رغماً عنه ، فقد ابتلعه قرش السرطان رويداً رويدا ً..
 ان مشكلتي لم تكمن في حزني عليه فقط ما جعلني احضنه كوالدٍ غاب عني سنيناًَ وسنين، مشكلتي كانت حين عرفتُ أن من فعل بهذا العجوز كل هذا ورماه بظلمة هذه الغرفة هم أولاده الشياطين ..فهل تصدقون ذلك ؟
حين يملأ الطمع قلوبنا ، حين يجلس الدولار فوق عرش أفئدتنا ، وحين تسلب المادة شعورنا بآدميتنا وانتمائنا ، و تنفس الدم بين أفراد العائلة الواحدة ماذا يبقى؟
تكون النتيجة موتٌ بالحسرة والوحدة  في إحدى غرف دور المسنين المظلمة !!
هي واحدةٌ من مئات القصص المقززة التي تشعل دمي نيراناً ، وتكاد تجعل من نبضي مجرماً يغتال هذا الوحش الذي بدأ يسكن علاقتنا العربية...
لماذا باتت حياتنا كالغاب ؟ لماذا نعتقد ان كبار السن هم عالة على المجتمع ؟ ولماذا نخشى الاعتناء برجل قتلته هشاشة العظام ..أو طلقته ذاكرته أو حتى اجتاحه ورمٌ بدأ يقرقشه على مهل ؟
أصارت بيوت آبائنا وأمهاتنا في شيخوختهم سكنٌ في إحدى المؤسسات ؟
هي أسئلة بغيضة لن اجيب عليها ، لكني ارجو من الله ان يبقي ضميرنا الانساني منيراً قبل كل شيء ..فإذا أنكر الابن أباه وسرقه ورماه بعيداً ماذا يبقى؟
بالله عليكم ...أجيبوني ماذا يبقى؟

مقالات متعلقة

14º
سماء صافية
11:00 AM
14º
سماء صافية
02:00 PM
13º
سماء صافية
05:00 PM
9º
سماء صافية
08:00 PM
9º
سماء صافية
11:00 PM
06:12 AM
05:31 PM
2.78 km/h

حالة الطقس لمدة اسبوع في الناصرة

14º
الأحد
16º
الاثنين
15º
الثلاثاء
14º
الأربعاء
17º
الخميس
16º
الجمعة
16º
السبت
3.83
USD
4.10
EUR
4.79
GBP
242201.07
BTC
0.53
CNY