الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 28 / أبريل 04:02

ع طريق العين ما أحلى المشي/ بقلم: وديع عواودة

كل العرب
نُشر: 08/06/13 10:18,  حُتلن: 10:21

وديع عواودة في مقاله:

سعود الأسديحلّ في الناصرة في أول أيلول 1960 لكن ذكريات الطفولة بين الكروم وملاعب الصبا في دير الأسد موطنه الأول ما زالت محفورة بصخر الجليل

بسبب ما حدث من نكسات ونكبات لا شعب بلا ذاكرة والمبدعون تيجان على رؤوسها وسعود الأسدي تاج بحاله على صدر القصيدة العامية والذاكرة الجماعية

يوم السعد هذا الأسبوع لدى صديقنا سعود كان الأربعاء. ابتدأ صباحه بميلاد " أوبيرا لا بوهيم " (تذويت شعري مسرحي للعربية) " إلى جانب أبنائه تميم، رياض، إياد بشير، شادي. بعنوانها ومضمونها المميز تعبّر الأوبيرا عن قدرة وندرة مبدع بمقاسات سعود فهو يرقص على لحن مزماره ولا يحاكي أحدا.
وفي المساء احتفلت الناصرة، جداتها وعماتها وخالاتها وشقيقاتها به وبهم في أمسية نادرة بروعتها ورونقها، واحدة من الليالي الملاح. والأسدي سعود شاعر مخضرم وهو شاعر فلسطين الأول بالشعر العامي وواحد من أبرز حماة ذاكرتها الوطنية. مدجّجا بذاكرة من حديد اكتسبها بالجينات كما قال وبنفس المتنبي وروح المعرّي ابتدا في الاحتفالية مشوار استعادة مسيرته على بيادر دير الأسد حتى استقر في مدينة أحبها فأحبته، الناصرة.

ساعة صفا
لم تتسع قاعة الروم في الناصرة للضيوف ممن وفدوا من كل البلاد وظفروا بساعة صفا. ما أن قدمه عريف الاحتفالية الأستاذ فهمي فرح حتى امتطى أبو تميم قصائده ورواياته الأصيلة واستهلها بلهب القصيد. بحب مكتوب، بحروف من نار ونور تعيده لأيام الشباب في حارة الروم بقصيدة شهباء مطلعها " يا شعر حيّ بصوتي حارة الروم
للرأي في دعوة منها لتكريمي
وحارة الروم كانت حارتي
وأنا أكّن للناس فيها كل تعظيم".

سعود الأسدي في الناصرة
حلّ سعود الأسدي في الناصرة في أول أيلول 1960 لكن ذكريات الطفولة بين الكروم وملاعب الصبا في دير الأسد موطنه الأول ما زالت محفورة بصخر الجليل.
والصورة الحلوة لموسم الحصاد والبيادر في الأرياف هي قصة فلسطين وتزداد حلاوة على لسان سعود حينما حّرك شريط الذاكرة واستعاد أياما " جوعها أكثر من شبعها وعطشها أكثر من ارتوائها ". أيام نام فيها الأطفال على " لوح الدراس" لكنهم كانوا أغنياء بفرح الحياة وبهجتها وأصالتها، ينشد سعود وأترابه يردّدون قصائد وأهازيج شعبية خفيفة الظل مشحونة بصور مدهشة كالقول " حاجبها بفرط رمان " أو يا جاجة طلعت على راس السطح تهوى يا وقعت على راس منقادها غميانة وسكينة النصراوية ما قطعت برقيبتها... سكينة الترشحاوية ما قطعت برقيبتها إلى آخر الجغرافيا الفلسطينية في ذلك الزمان. يا دمها مشى سبع غدران ويا لحمها ما أكلته العربان " وهكذا.
تتعدى نتاجات سعود قيمتها الأدبية والجمالية فتساهم بحماية الذاكرة الجماعية بسرده الرواية الشفوية للفلسطينيين قبل وبعد نكبتهم.

الجغرافيا الفلسطينية
ويكشف سعود فضل والده الشاعر الراحل محمد أبو السعود الأسدي على تفتق قريحته الشعرية وإلمامه بالجغرافيا الفلسطينية يوم كان يروي على مسامعه كيف أحيى سهرات في طول البلاد وعرضها من إقرث مرورا بدير الغصون قضاء طول كرم حتى رفح، فتعّرف الابن ومن يحيطه على أسماء البلدات.
صديقنا أبو تميم أحرز تقديرا كبيرا في وطننا بسعة موهبته وثقافته وإبداعه وحاز مكانتها بدون " تطبيل وتزمير ".

إثراء الإبداع الشعبي
ربما ألمح الأسدي لذلك بمجاز عن شجرة زيتون تغرس في غير موضعها على مفترق طرق على دوار في وسط مدينة. تفرّد الأسدي بكلمة استثنائية مغمسة بالزيت والزعتر معطّرة بأريج الرمان والليمون والسيسبان مشحونة بإرث عمالقة شعراء العرب حوّل فيها القصيدة الفصيحة لشعر عامي لا يقل بتعبيره وظرافته عن ملك الشعر العامي في مصر، الأبنودي.
كما أكمل ما بدأ به الراحل توفيق زياد من لم شمل وإثراء الإبداع الشعبي وحراسة الرواية الشفوية بقوالب شعرية مذاقها طيب كطعم الزعتر البرّي والقرصعنة والنعناع وبقية نباتات بلادنا المباركة بالغذاء والدواء والتي أنصفها ووّفاها أبو تميم حقها غزلا وتطييبا و" حوارا ".

اللهجة الديراوية
في استعراضه باللهجة الديراوية للمسيرة بحلوها ومرّها، توقف الأسدي عند حكايته مع الراديو والبيتفون بعدما " طيرّت عقله " أغنية معتقّة لأم كلثوم فاتحتها " كم بعثنا مع النسيم سلاما للحبيب الجميل حيث أقاما ".
ولم يكن أجمل من صورة الأبناء وهم يعزفون على مسامع الأب العاشق قصيدة أم كلثوم إياها وكأنهم يخترقون حدود المستحيل ويستحضرون أياما خلت. وكيف توّفق بين الشرق والغرب، بين المتنبي وبتهوفن، سئل الأسدي فأشار للناصرة يوم وقع بغرام الأوبرا في بيت المرحوم قسطندي معمر بالستينات.
كما روى كيف بدأ يكتب الشعر في قصة رائعة بدأت بعتاب من والده بعدما خرج من السجن عام 1949 وانتهت بميلاد " أغاني من الجليل " عام 1976 . وقتها عاتب أبو سعود نجله فور الإفراج عنه لعدم مراجعته برسالة جوابية على رسالته من المعتقل: لماذا لم ترّد ولم تكتب قصيدة يا سعود؟ في الواقع تستبطن قصة الكتابة الشعرية عند سعود فصلا هاما لم يرو بعد من تاريخ النكبة يتعلق بتجربة آلاف من الأسرى بلا حراب اعتقلتهم إسرائيل منهم الراحل أبو سعود.

الفن والثقافة
نجح سعود بدخول المدرسة في مجد الكروم قبل نكبتها بعدما اجتاز الامتحان بفصاحة لسانه وحفظه لقصائد حبيبه، المتنبي. وكشف كيف ساعدته النكسة في إشباع " عطش حتى الركب " للثقافة والفن وأتاحت له اللقاء الأول مع ملحمة الزير سالم فاستمتع بقرائتها على ضوء السراج. كيف لا وهي " شفاء للنفوس " بجماليتها؟
كما كشف عن بدايات رحلته مع الزجل بعدما اكتشف أن الزجل اللبناني " مغطى بقشة " فكانت باكورة زجلياته " ع طريق العين ما أحلى المشي يوم غمزتيني وقلتي بترمشي".

الأعمار لا تطول بالنوم
ولم يتجّل أبو تميم يوما كما في هذه الاحتفالية ولم يقو عريفها التحكم به حينما تدفقّت ينابيعه شعرا وتفجّرت عيون ذكرياته ونكاته اللمّاحة وهو يبوح بحبه لليل والسهر الذي يجعل اليوم يومين والعام عامين فهو أيضا من المؤمنين بأن الأعمار لا تطول بالنوم، بالعكس.
وأقدم على تبيان معرفته الأولى والأخيرة، السيدة الفاضلة أم تميم رفيقته ومديرة أعماله وناقدته الأدبية.
وعن هاجس الموتوهو ابن عامين استذكر سعود ذكرياته م زيارة " عزرايين " له في مستشفى د. نايف حمزة في حيفا، قبل أن يصبح رمبام، يوم ألم به " التيفوئيد. وبهّمة شاب بالعشرين يذكّر بحّمية أبي القاسم الشابي تحدى أبو تميم الموت وهو يقول كيف أخشى الموت وأنا مطعّم بالمتنبي والمعرّي ؟
في معرض حديثه استحضر ملهمه المتنبي وقال إنه لا معلم بلا المتنبي أو المعرّي، واليوم وبسبب ما حدث من نكسات ونكبات لا شعب بلا ذاكرة والمبدعون تيجان على رؤوسها وسعود الأسدي تاج بحاله على صدر القصيدة العامية والذاكرة الجماعية فهنيئا له ولنا.

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net

مقالات متعلقة