الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 28 / أبريل 12:02

مواقف خارج تُخُوم النّصوص!؟/ بقلم: عبد عنبتاوي

كل العرب
نُشر: 13/12/12 14:43,  حُتلن: 17:50

عبد عنبتاوي في مقاله:

معظم تلك الإجتهادات سيّما المعاصِرة منها لا تَخلو من خيانةٍ عقلية ومن لا أمانة فكرية

الثقافة الاُحادية المنطلَق والإتجاه لا تحتمِل التعددية والتنوُّع الحقيقييْن في الحياة والفكر والثقافة والمجتمع كما هو الحال في السياسة مهما بَدَا غير ذلك

محاولات إفتعال هذا التزاوج الهَجين بين الحالة الاسلاموية الرَّاهنة وبين المُعاصَرة والديموقراطية والمَدنية والحداثة ما هي بالتالي إلاّ تلاقُح لا عقليّ

ثقافة إقصاء الآخر المُذَوَّتة في النصّ والتأويل معاً لا تستطيع أن تقود نحو مواجهة التحديات الفردية والجماعية لا سيّما تلك التحديات الوجودية منها مهما حاول مُروِّجو هذا النهج

تعود من جديد وتتكرر بعض الإجتهادات الإجترارية ، في السنوات الأخيرة عبر بعض المثقفين اللامفكِّرين ، بمحاولة عَقْلنة الدين عموماً ، وأدْلجة الإسلام السياسي خصوصاً ، من خلال عملية تحديث مُفتعَلة ومتكَلّفة لإظهار جهوزيته بتقبُّل التعددية الحقيقية وقبول الآخر المختلِف وحتى النقيض، وبالتالي تقبُّل الديمقراطية (!؟) ، ومدى انسجامه مع الحياة وتناغمه مع الحداثة السياسية والمدنية ، بما يتناقض مع كلِّ المنهجيات العقلية والعلمية، ومع جميع التجارب السياسية والفكرية والحياتية ..
وبعيداً عن دوافع وغائيات هذه الإجتهادات وأصحابها، في التاريخ العربي والانساني المُعاصِر والقديم ، والسِّياقات التي تُطرح من خلالها ، فقد سقطت هذه المحاولات سقوطاً مدوياً ، على المستويَيْن النظري والعملي معاً.. وتراكُم هذه الطروحات التنظيرية ،كما هي تراكم التجارب الكمية والنوعية لها ، أفْضَتْ الى إنكشاف مدى تناقضها مع معايير العقل والعلوم والحياة ، في السياسة كما في الثقافة والمجتمع .. وإن كنتُ لستُ من مُقدِّسي الديمقراطية، ولا من رُوّادها، وهو أمر مُنفصِل وإنْ كان في سياقٍ مُتّصل ، وبالرغم من ضيق هذا الحَيِّز ، في تناول ومعالجة امر وجوديّ كهذا ، وعلى هذه العُجالة ، فإنني استطيع القول جازِماً ، إن معظم تلك الإجتهادات ، سيّما المعاصِرة منها ، لا تَخلو من خيانةٍ عقلية ومن لا أمانة فكرية ، وغالباً ما تنطلق وتتحرك لإعتبارات سياسية واجتماعية ، لا معرفية وثقافية ، وبدوافع مصلحية وإنتهازية ، إنْ لم نقل آنوِيَّة ، على أقل تقدير..

مولود معاق
إن محاولات إفتعال هذا التزاوج الهَجين ، بين الحالة الاسلاموية الرَّاهنة وبين المُعاصَرة والديموقراطية والمَدنية والحداثة ، ما هي بالتالي إلاّ تلاقُح لا عقليّ ، عِوَضاً عن كونه لا شرعيّ ، لا ولم ولن يُنجِب إلاَّ مولوداً معاقاً ومزيداً من المُراوَحة خارج تُخوم التاريخ وحركته.. إنَّ الثقافة الاُحادية المنطلَق والإتجاه ، لا تحتمِل التعددية والتنوُّع الحقيقييْن ، في الحياة والفكر والثقافة والمجتمع كما هو الحال في السياسة ، مهما بَدَا غير ذلك .. كما ان ثقافة إقصاء الآخر ، المُذَوَّتة في النصّ والتأويل معاً ، لا تستطيع أن تقود نحو مواجهة التحديات الفردية والجماعية ، لا سيّما تلك التحديات الوجودية منها ، مهما حاول مُروِّجو هذا النهج ..

طبقة الإنتليجينتسيا
فالمشكلة ليست في الإسلاميين أنفسهم ولا بمشروعهم وتحالفاتهم فحسب، إنما فيمَن راهن وما زال يراهن على هذا الخيار، من داخل "طبقة الإنتليجينتسيا"، حتى بات رهينة لهذا المشروع، بل وربط مصيره الشخصي والفكري به.. ويأتي سياق هذا الطرح، في ظلّ كمٍّ هائلٍ من الكتابات العربية في هذا الاتجاه، من أبناء الطبقة المُعاقة والمُعيقة ذاتها.. وراح بعضهم أبعد من ذلك وأخطر، حتى غدا يعرض هذا "الخيار" كوصفة سحرية للخروج من الأزمة العربية المُستدامَة، ويطرحها كبديل للواقع السياسي والثقافي المأزوم أصلا، ليزيده بذلك تأزُّماً وتعقيدا، متجاهِلاً طبيعة التحالفات السياسية وغير السياسية التي يفرضها هذا "الخيار"، على المستوى الوطني والقومي والإقليمي والكونيّ..
فهل من الطبيعي أن تُطرَح بدائل الواقع، في عملية التغيير والولوج الى المستقبل، من خيارات الماضي ومن ثقافات ماضَوِيّة وَهْمية ودُغمائية ؟! أما تجربة ونموذج المقاومة اللبنانية ، المُتمثِّلة "بحزب الله " ، على سبيل الحصر لا المثال ، إنما هي مسألة أُخرى مُنفَصِلة وإنْ بَدتْ مُتَّصِلة ، تحتاج الى وقفة تأمُّل وتفكُّر من نوعٍ آخر ..!؟

غِيابُ بُوصَلةٍ في زمنِ التِّيه (رِثاء فكرة في صورةِ إنسان)
لَيْسَتْ هذه مَرْثية ولا كَلمة تأْبين.. لأن الموتَ يُحاوِلُ دَوْماً إحكامَ حِصارهُ على مساحة حياتِنا الضّيقةِ أصْلاً، في زمنٍ ضاقَ بالمعاني، ويُحاولُ قهرنا برائحةٍ مُلوّنةٍ دون استئذان.. ولأن الموتَ يبدو وَجْه آخر من وجوه الحياةِ الحقيقيةِ، وقد يكونُ مُكمِّلاً لها.. فنحن لا نرثي، هُنا والآن، الرّاحل الكبير ناجي عَلُّوش، فهو دائم الحُضور والتدفُّق، بل نرثي أنْفُسَنَا بِغيابِ بُوصلةٍ في زمن التِّيه.. فهنالك مِنَ الناس مَنْ لا يرحلون وإنْ ماتوا.. لا يغيبون وإن ترجَّلوا..
لم نعرفْ الفقيدَ عن قربٍ، ولكن إذا كان النصُّ والموقفُ هو مِرْآة صاحِبِه فقد عرفناه جداً وجيِّداً..
فقد كان ناجي عَلُّوش، ولم يَزَل وسيبقى، فكرةً في صورةِ إنسانٍ.. ففي نَصِّه وحياته، في سيرتِهِ ومَسارِهِ، اختزالٌ لكثيرٍ من المعاني ..

ثورة فلسطينية جديدة
وبهذا المعنى، فإننا اليوم لا نستحضر الرجلَ فحسب، إنما نستحضِرُ الفكرة ونستذكِرُها، وأيُّ فِكرةٍ.. امتَشَقَ قَلَمَه باكِراً في الدفاع عن العقلِ والحريةِ والحقِ، دون اختلالٍ في الاوْلوِيات.. امتَهَنَ، مُنذ البدايات، صِناعةَ الوعيِ وفَوْلذَةَ الإرادات، وعَرفَ كيف ومَتى ولماذا يقولُ لا ، دُونَما تَلَعْثُمٍ أوْ وَجَلٍ..فَمِنِ الثورة والجماهير والمسألة اليهودية وهديِتِه الصغيرة الى المفاهيم والإشكالات في الديمقراطية، مُروراً بنحو ثورة فلسطينية جديدة والحركة القومية العربية والمشروع القومي، تَحرَّك بين السياسةِ والشّعرِ والأدبِ والبحثِ والفكر المُنتِجِ بِرَشَاقةِ فارسٍ ديونيزيّ، دون أن يخشى السيزيفية.. حتى غَدا أحدُ الرموزِ النادِرَةِ التي حَلَّقَتْ وجَمَعتْ بين الفكرِ والادبِ والسياسةِ بتناغُمٍ قَلَّ نظيرُهُ في الحالةِ العربيةِ.. فقد استطاعَ أن يُغَذّي مواقِفَه ونَشاطه السياسي بِبُعدٍ فكريّ، وتمكَّن من ترجمةِ فكرِهِ في الممارسةِ السياسيةِ والحياتية والمواقفِ..

الدوغمائية والجمود العقائدي
ناجي عَلُّوش آديبٌ عُنقوديٌّ، شاملُ المعرفةِ والمواهبِ والإهتماماتِ، ومِنَ القِلَّةِ القليلةِ، في الحالةِ الفلسطينيةِ والعربيةِ البائِسَتَيْن، التي لم يُصِبْها الإنفصامُ، بل غَذَّى الثقافة الوطنيةَ والقوميةَ بعقلٍ نَقْديّ ثاقبٍ ومُتناسِقٍ، في القولِ كَما في العملِ.. إنه المثقف العُضويّ الحقيقيّ، في عصر الصحراء.. ولأننا لا نستطيعُ، هنا أن نقولَ عنه وفيه كلَّ شيءٍ، بعيداً عن المُغالاةِ والتقديسِ، بِما تَنْأى عنه مَقاصِدُنا، لكن لا بُدَّ لنا أنْ نُضيفَ: رَفع قضيَّتَهُ الوطنية والقومية والتقدمية والثورية أكثر مما رَفَعَتْهُ هي، فَرَبِحَها هو وخَسِرَتْهُ هي..أفْرَط في التأطُّر الحزبي والسياسي، على حساب حريَّتِهِ أحياناً، دون أن يَفْقِد الإتّجاه ودون أن يقبَع في الدوغمائية والجمود العقائدي.. ولأنه لم يُمارِسْ الرِّياءَ والخيانةَ العقلية، وحافَظَ على الأمانةِ الفكريةِ، والعُذريةِ السياسيةِ، فلَمْ تَنَلْ قيمتُهُ وقامَتُه المَكَانَةَ التي تَسْتَحِقَّانها بيننا.. عَشِقَ الحياةَ فتعَمَّد في صوْمَعتِها، وَلم تكن الحياةُ لديه مُجرَّد محطة بقدر ما هي مَسْؤُولية.. ألَمْ يُقارِع آنيةَ الزمنِ وإسقاطات الحياةِ وهمومَها، بعقليةِ لاعِبِ شطرنجٍ لا بعقليةِ لاعبِ نَرْدٍ، وبآلياتِ الجَمالِ والإبداعِ لا بأدواتِ الماضي والإتِّباعِ.. حتى مَنَحَتْهُ الحياةُ معنى ومَنَحَها هو ماهيَّة.. تحلَّى برُؤيةٍ وشَجاعةٍ معاً في زمنٍ خَلا منهما، إلاَّ ما نَدَر.. وكانَ من أوائلِ مَنْ رَأوْا ماذا يجري من أحداثٍ في سوريا ولِماذا، وما هي خلفياتها ومعانيها واتجاهاتها ومَراميها، عَبْر بوصَلَتِهِ الفلسطينية والقومية والتقدمية المُقاوِمَة..

المفكر الشاعرِ والشاعرِ المفكِّرِ
رَأى في دمشقَ بوابَةَ فلسطين، وحامِلَةَ المعاني، ورَحَلَ ذارِفاً دمعةً بعدما تَلَمَّس مُسوخاتٍ بَشريةٍ، بصورة الأعرابِ ولبوسِهمِ، قبلَ وأكثرَ مِنَ المستعمِرين، يُحاوِلون خَدْشَ وَجْهِهَا وإِزاحةَ وِجْهَتِها..
ولأنه تَحَرَّك بين المفكر الشاعرِ والشاعرِ المفكِّرِ، وسارَ – واثِقاً وقادِراً – بين المستحيل الممكِن والممكِنِ المستحيل، باتَ من القلائلِ الذين يَسْتأهِلون ويستحقون الإحتذاءَ والإقْتِدَاءَ بِهِ..
وأخيراً، ونحن نَطِلُّ عليهِ، الآن وهُنا، من شُرْفَةِ حياتِنا وقُبورِ صحرائِنِا، أخالُهُ يُحَدِّقُ بِنا قائِلاً: كَفانا موتاً سريرياً.. لا تنظروا الى الوَراءِ حَدَّ المُراوَحَةِ، بل الى ما وراءِ الأشياءِ والأزمانِ والأحداثِ.. لا تنتظروا التاريخَ بل إصنعوه.. إتقِنوا حِرْفَةَ النَّمْلِ بإرادةِ الوعيِ والوعي الإراديّ، وكونوا كنيرانِ المَجوسِ كي يَمشي التاريخُ كَما نُمْلِي.. واصِلوا تَقَدّموا ولا ترتَعِشوا.. أحِبّوا الحياةَ، مَهْما آلَمتكُم، ولا تَنْسَوْا معاركها واستحقاقاتها.. هكذا أسمَعُهُ يقول، أو هكذا أُريدُ أن أسْمَعَهُ، أوْ هذا فِعلاً ما يقولُه ناجي عَلُّوش، الآن وكُلّ آنٍ، لنا ولغيرنا.. لأنه ابنُ الحياة..

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجي إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير علي العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة