الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 03 / مايو 02:02

الحملة العدوانية على غزة (2)/ تفاهمات التهدئة - صفعة للمقاومة/ بقلم: سميح غنادري

كل العرب
نُشر: 06/12/12 10:53,  حُتلن: 08:09

سميح غنادري في مقاله:

الشعب إذا ما مددته بمقوّمات الصمود والمقاومة وبعزل الخيانة والخائنيين كفيل بأن ينهض كالعنقاء من رماد الهزيمة لهزم الهزيمة

لا يجوز لأي قائد مهما كان دوره السابق في المقاومة، أن يبيع تاريخ المقاومة وأن يتاجر بدماء شهدائها وأن يخون أسراها القابعين في سجون الاحتلال

إذا كان لا بد من الحديث عن الانتصارات لإخفاء الإخفاقات فالذي انتصر هنا هو العدوان الإسرائيلي على غزة بالمأسسة السياسية لأهداف حملته العسكرية

الجامعة "العربية" (والأصح الخليجية - الأمريكية) فتفاخرت "باقتحام" غزة تحت القصف "دون" إذن إسرائيلي وأدانت العدوان! واجتمع وزراء خارجيتها لإصدار بيانات

هل إسرائيل هي التي استجدت واشنطن للضغط على مرسي حتى يضغط هذا على حماس؟ أم أن حماس هي التي استجدت مرسي ليستجدي أوباما للضغط على إسرائيل؟

أستغرب أن تلجأ حركة مقاومة، تقبع تحت الاحتلال والحصار في جزء من وطن كلّه محتل، إلى الالتزام بوقف إطلاق النار وتتفاخر بهدنة مع المحتل، وأستنكر أن تسمي هذا الخنوع انتصاراً. لم يحدث مثل هذا في تاريخ حركات المقاومة. ولا تقولوا لي إن حزب الله فعلها، فهو يعيش ويعمل في دولة مستقلة يسيطر على جنوبها بعد أن حرره بمقاومته، ووافق على قرار دولي اتخذته وترعاه الأمم المتحدة بمنع إسرائيل من شن حرب أخرى على لبنان، وبالتزام حزب الله بعدم إطلاق الصواريخ باتجاهها. وإذا كان لا بد من الحديث عن الانتصارات لإخفاء الإخفاقات، فالذي انتصر هنا هو العدوان الإسرائيلي على غزة بالمأسسة السياسية لأهداف حملته العسكرية. إذ أن أهدافه الأساسية كانت وقف إطلاق الصواريخ وضرب المخزون العسكري لحركة المقاومة والتوصل إلى هدنة غير محدودة الزمن (انظري المقال السابق: جدلية الانتصار والهزيمة).

خريف إخواني إسلاموي
أما حماس، فانتصرت على نفسها كحركة مقاومة واستحالت إلى حركة سياسية سلطوية على "إمارة غزة" تحت كنف ورقابة حكم الإخوان المسلمين في مصر، وفي إطار الاستراتيجية الكونية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط، وبتساوق تام مع خريف إخواني إسلاموي اغتصب ربيعاً عربياً. حماس خرجت من المحور الثلاثي الداعم للمقاومة: سوريا وحزب الله وإيران، لتغرق في المحور الثلاثي "المعتدل"- التفريطي: مصر محمد مرسي وقطر وتركيا.

الفسحة في كوّة الزنزانة...
ليس صحيحاً الادعاء بأن تفاهمات الهدنة أزالت الحصار عن غزة براً وبحراً وجواً، وفتحت المعابر لحركة الناس والبضائع وألغت التصفيات الإسرائيلية لقادة المقاومة. فلن تحظى غزة لا بميناء ولا بمطار دولي مفتوحين على العالم. وتوسيع المنطقة البحرية والمنطقة البرية بمئات الأمتار لشؤون الصيد والزراعة لا تعني فك الحصار. وكان يجب فتح معبر رفح على الحدود المصرية منذ سنوات بقرار مصري سيادي منذ حكم محمد حسني مبارك. واتهمناه - بحق- بالتواطؤ لأنه لم يفتحه. أما محمد مرسي مبارك فيعد بفتحه الآن بناء على اتفاق الهدنة، بإذن إسرائيلي وأمريكي شريطة التزامه بمراقبة صارمة لكل ما ومن سيعبر منه. ولهكذا تعهد لفرعون مصر الأخوان رصيد محترم لدى "أعزائه"- فلقد دمر أصلاً عشرات أنفاق التهريب وصادر سلاحاً مهربا قبل شهور من تفاهمات الهدنة. أما المعابر من جهة الحدود مع إسرائيل، وبعض التسهيلات لمرور أشخاص وبضائع، فلا تعني فتحها كلياً ولا تعني إعادة تواصل غزة مع الضفة ولا إلغاء مراقبة إسرائيل الصارمة عليها واتخاذ القرار بما يُسمح عبوره.

تنفيذ هجمات عسكرية جديدة
هكذا هو الأمر بخصوص "شل أيدي إسرائيل عن تنفيذ هجمات عسكرية جديدة على غزة واللجوء إلى تصفيات جسدية" بسبب التهدئة. إسرائيل لا تريد هذا أصلاً ما دامت قد ضمنت التزام حماس بالتهدئة. هي تريد أن تتحرر من غزة ومقاومتها مع ضمان أمن بلداتها في الجنوب. فإذا ما التزمت حماس بالتهدئة ستلتزم إسرائيل، وإذا ما خالفتها ستعود إسرائيل لعدوانيتها، وليس من خلال "ملقط الجرّاح"-(هكذا يصفون في إسرائيل شكل تنفيذهم لعملية عمود السحاب)- وإنما من خلال "ضربات المطرقة"، كما يهددون. وحين يهدد مشعل بأنه "إن لم تلتزم إسرائيل، لن نلتزم نحن عندها وسنرد"، من المفيد أن يعرف أن هذا الموقف بالضبط وحرفياً، الذي يصرّح به باراك. ويضيف أن اتفاق الهدنة غير موقع أصلاً مع حماس، وهو ليس اتفاقاً بل تفاهماً من خلال وسيط وضامن هو الرئيس المصري، وأن هذه ورقة تفاهم لا تفوق أهميتها... أهمية ورقة تفاهم بين سكان عمارة من طوابق لصيانة وتنظيف مطلع الدرج. الامتحان -يتابع باراك- هو في التطبيق والتنفيذ، من قبل حماس، ومصر الإخوان هي القيّم عليها.
لا نقصد، بكلامنا أعلاه، التقليل من أي مكسب مهماً كان صغيراً في اتساع خرق الحصار، وما فيه من بعض فرج لمعاناة الناس الخانقة. حتى السجين في زنزانة محكمة الإغلاق يفرح إذا ما وفرّ له السجان كوّة للتنفس بمساحة 10X10 سم، فاذا ما وسّع الكوة إلى 20 X20 سم يزداد فرحاً، رغم بقائه في الزنزانة وتحت وطأة-احتلال- تحكم السجان. ولولا صمود أهل غزة منذ "فك الارتباط" بها (نيسان 2001) ومقاومتها للمحتل وللحصار، ولولا تحصيل إسرائيل على هدنة تلغي المقاومة المسلحة، وهذا من مصلحتها، لما اتسعت كوّة الزنزانة.

مطبخ الهدنة السام والطبيخ العربي الفاسد
لا نريد أن نتكهن مَن استجدى مَن لضمان هكذا هدنة. هل إسرائيل هي التي استجدت واشنطن للضغط على مرسي حتى يضغط هذا على حماس؟ أم أن حماس هي التي استجدت مرسي ليستجدي أوباما للضغط على إسرائيل؟ أم أن مرسي هو المستجدي المبادر؟ لا يهم هذا، ولا يبدل حقيقة هكذا هدنة ومن تخدم. جميعهم مُستجدٍ ومُستَجدى. تقاطعت وتداخلت المصالح. فإسرائيل تريد ضمان تحقيق أهداف حملتها بموافقة المحتل المحاصرة أرضه - المقاوم! - دون أن تتورط في وحل حملة برية بكل ما يرافقها من ضحايا وعزلة وإدانة دولية وتفجير العلاقة مع مصر تحت ضغط شعبها على حكامها. والمقاوم – حماس - يريد أن يخلع بدلة المقاومة وأن يحظى ببدلة السلطة الرسمية السياسية المعترف بها دولياً والحاكمة لإمارة غزة. والرئيس مرسي يريد أن يثبت لسيده الأمريكي أنه هو الضامن للاعتدال في المنطقة، وأن ما يهم الأخوان الإسلامويين هو بالأساس حكم "الشريعة" -حكمهم، لا شرعنة وتحقيق العدل للحقوق الفلسطينية والعربية. لن يلغي مرسي اتفاقية كامب ديفيد وسيعيد سفيره عن قريب لتل أبيب. وهو في انتظار 4,5 مليون دولار من أمريكا والقرض من البنك الدولي والدعم الأوروبي والسعودي والقطري. لقد تعهد وأثبت أنه ليس طرفاً في الصراع، وإنما وسيط محايد وضامن للهدنة.

حقوق ودماء الشعوب
يبقى المايسترو وحامل العصا الموجهة في الكونسيرت، أو في حفلة الرقص على حقوق ودماء الشعوب، أو في السيرك لمخلوقات جرى تدجينها... السيد الأمريكي. وهذا السيد أفهم العرب في تطلعهم نحو الربيع أن له استراتيجية جديدة لمنطقة الشرق تقوم على أساس هيمنته الجيوسياسية على ثرواتها وسيطرته العسكرية عليها، وإعادة تجزيء المجزأ وتقسيم المقسم، من خلال رضى وتحكيم الأخوان المسلمين الضامنين لخرفنة ربيع الشعوب.  وأوضح السيد الأمريكي لربيبته إسرائيل أن عليها عدم الإزعاج والمس بشبكة مصالحه في المنطقة. لقد باركت أمريكا العدوان على غزة من على كل منبر، وتطلب من إسرائيل أن تبارك مخططها الذي يخدم أصلاً المصالح الاستراتيجية لها أيضاً. خصوصاً أن مرسي أثبت تساوقه في أول اختبار جدي له - العدوان على غزة - لوجهة توجهه. ويقوم المخطط على إقامة محور اعتدال من مصر وقطر وتركيا والسعودية والخليج العربي، ضد إيران وسوريا وحزب الله. حلف "سُني" في مواجهة الحلف "الشيعي". إيران هي العدو، وهدم سوريا هو المدخل لعرين هذا العدو. والمطلوب "تحرير" دمشق لا تحرير فلسطين.

العدو هو إيران
صحيح أن السعودية لم تظهر كلاعب فعال علناً في المخطط الأمريكي- الأطلسي والإسرائيلي للمنطقة. لكن بظهور شخصياتها على وسائل الإعلام تعرّى موقفها إلى حد "الستربتيز" التام. قالوا: (وعممت الفضائيات قولهم وكررت بثه-خصوصاً "الجزيرة" و "الحرة" و"العربية") - ليس هنالك صراع بين إسرائيل ودول الخليج. العدو هو إيران. وهي التي مدّت غزة بصواريخ لا تترك إلا المفرقعات. والهدف من إطلاق الصواريخ هو زج المنطقة في حرب بهدف اشاحة النظر عما يجري في سوريا ووجوب تحريرها. نعم إلى هذا الحد من صفاقة الخيانة وصل نظام "حامي" (سارق) الحرمين. رحم الله الشاعر مظفر النواب الذي قال: "كافر مَن يحج إلى مكة دون سلاح".

الجامعة "العربية"
أما الجامعة "العربية" (والأصح الخليجية - الأمريكية) فتفاخرت "باقتحام" غزة تحت القصف "دون" إذن إسرائيلي، وأدانت العدوان! واجتمع وزراء خارجيتها لإصدار بيانات الإدانة رافضين حتى وضع اقتراح المندوب العراقي باستخدام سلاح النفط لردع العدوان، على جدول الأعمال. وتنطحت لهذا "النعجة" القطرية متهمة الحضور بأنهم "نعاج" لأنهم لا يتبرعون لإعمار غزة (اقرأي: لإسكاتها). وكأن هذه هي القضية الآن لردع العدوان. التقت النعاج بالنعاج بعد أن كانت تتكسر النصال على النصال في فتوحات وحروب العرب. وبقي الفتى العربي الفلسطيني في غزة "غريب اليد والوجه واللسان" في هذا المستنقع العربي.

المفاوضات مع سوريا
إسرائيل الصهيونية دولة شقيقة ولا يجوز قطع العلاقات بها وإعادة النظر بالاتفاقات معها. أما الدولة العدوة فهي سوريا العربية التي يجب قطع العلاقات بها وسحب السفراء منها وطردها من جامعة الدول العربية وإغراقها بالـ"متطوعين" وبالسلاح وهدمها وتمزيقها كدولة، لأنها ليست دولة ديمقراطية. ويجوز التفاوض إلى ما لا نهاية، وبلا نتيجة مشرّفة، مع إسرائيل على مدى عقود. أما المفاوضات مع سوريا وبينها وبين المعارضة، فلا تجوز! هذا ما قرره حماة الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة والوطنية، علوج السعودية وقطر وسي مرسي الإخوني (ولا أبرئ بهذا قيد شعرة أخطاء وخطايا النظام السوري التي فتحت المجال لهذه العلوج المدجّنة – النـّعاج).
دخل أعضاء وفد الجامعة العربية غزة بإذن إسرائيلي وبتنسيق معها. لم يجلبوا معهم سلاحاً لشعبها الأعزل، ولم يرسلوا لها مقاتلين متطوعين وإنما مندوبا تركيا (أصبحت تركيا الناتو عضو شرف في الجامعة). واحتراما لزيارتهم الكريمة بأهدافها... أوقفت إسرائيل لساعات قصف أرواح وعمارات الناس في غزة، ثم كثفته حال خروجهم. فمن لم يقنعه "التضامن" العربي الكلامي بوجوب التهدئة مع المحتل قد يقنعه القصف العسكري.
في هذه المطابخ السامة، الأمريكية- الأطلسية والإسرائيلية والعربية، جرى طبخ تفاهمات التهدئة. وكشفت الصحف الإسرائيلية، بمقالات محلليها وباستشهادات من بعض سياسيي وعسكريي الحكومة والجيش والمخابرات، أن التواصل والتشاور بخصوص شروط التهدئة كان قد بدأ منذ بدء اليوم الثالث للحملة العسكرية، وبشكل ثلاثي بين كل من تل أبيب والقاهرة وواشنطن، بما فيها زيارات سرية لرجال أمن إسرائيليين للقاهرة. ولم تطبخ كلينتون التفاهمات خلال 24 ساعة من زيارتها للمنطقة، بل أتت لوضع الرتوش الأخيرة على طبخة كانت قد استوت.

مقاومة المحتل
لا يسعنا كبشر إلا أن نكون طالبي تهدئات تحفظ حياة وجسد ولو طفلة فلسطينية واحدة من موت أو تشويه. لكننا كفلسطينيين وكبشر... منحازين إلى وجوب مقاومة المحتل وصيانة ذكرى شهداء المقاومة ومواصلة الطريق الكفاحي لتحقيق الحرية والاستقلال، وذلك حتى نحمي حياة كل أطفالنا وشعبنا. لذلك لم تهدّئنا وتطمئننا هكذا هدنة، وإنما هدّتنا. ولمن يصر على القول إن أهداف العدوان فشلت، نقول له لم ينتصر الحل العادل. وصحيح أن غزة الناس قد صمدت، لكن المشروع الوطني الفلسطيني وحق ووجوب المقاومة لضمانه... لم يتعززا. ولمن يواصل قصفنا بالإنشاء الكلامي في وسائل الإعلام العربية، بعد هكذا هدنة، عن الانتصار العربي والهزيمة الإسرائيلية -(انظر المقال السابق)، نقول: قد تكون الهزيمة أقل سوءًا من هكذا هدنة هزائمية. لأن الشعب إذا ما مددته بمقوّمات الصمود والمقاومة وبعزل الخيانة والخائنيين، كفيل بأن ينهض كالعنقاء من رماد الهزيمة لهزم الهزيمة. لكن كيف ينهض الآن "فرسان المقاومة" وقد بدّلوا جلودهم وخيولهم وخانوا ذواتهم وتاريخهم، وما زالوا يوهمون الناس بأنهم انتصروا بتحصيلهم هكذا هدنة؟ هذه هدنة جعلت حتى الفاشي ليبرمان، الذي دعا إلى تفجير السد العالي واغراق مصر أيام حكم حسني مبارك، يكيل المديح لمحمد مرسي الأخوان على إبرامها وضمانها.

الحملة العدوانية
لخص الاستراتيجيون الإسرائيليون، المركزيون والمعتمدون في شؤون السياسة والأمن العسكري، نتائج الحملة العدوانية لدولتهم والهدنة التي أنهتها بأربعة مكاسب – انتصارات - هي: أولا، مكسب سياسي أتى على خلفية انتصار عسكري، بضمان هدنة غير محددة الزمن وتكفل أمن بلداتهم ، وثانياً، نجاح الاختبار للقيادة المصرية الجديدة بخصوص تصرفها إبان المواجهة مع غزة، إذ لم تدخل مصر الأخوان المسلمين المواجهة كطرف معادٍ ولم تلغِ اتفاقية كامب ديفيد ولم تقطع علاقاتها مع إسرائيل، بل دخلتها كطرف محايد وكوسيط وضامن للتهدئة. وثالثاً، تخلت حماس عن طريق الجهاد وارتبطت بمصر الأخوان والتزمت بإلزام المنظمات الجهادية الأخرى في غزة بالانصياع إلى تفاهمات الهدنة. ورابعاً، يقوى ويتسع، برعاية أمريكية ووفق استراتيجياتها للمنطقة، "حلف سني" معتدل في مواجهة "حلف شيعي" راديكالي. وكل هذا لصالح إسرائيل، رغم بعض الاختلافات في بعض التفاصيل بين إسرائيل وأمريكا في بعض الأمور الثانوية واللاجوهرية.
ونشير إلى أنه انتشرت في الأشهر الاخيرة في وسائل الإعلام العالمية والعربية والإسرائيلية أخبار وتحليلات عن وجود مخطط لالحاق غزة بمصر وإعادة الحاق الضفة الغربية بالأردن وبتوطين اللاجئين خارج فلسطين، وأنه جرت وتجري اجتماعات تشاور سرية بهذا الخصوص، وبمشاركة شخصيات رسمية حكومية وأخرى من تنظيم الأخوان في كل من مصر والأردن. وأن هذا لا يتعارض مع الرغبة الإسرائيلية بالتخلص من خطر قيام دولة فلسطين، ولا مع الاستراتيجية الأمريكية الشمولية الهادفة إلى إعادة تفكيك وتركيب منطقة الشرق الأوسط... بما فيها سوريا ولبنان – بعد أن هدّمت العراق وجعلته مقاطعات سنـّية وشيعية وكردية وأقلياتية وهجّرت مسيحييه العرب، واحتوت ليبيا وجعلت من السودان سودانين.
صحيح أنه بالامكان أن نقرأ بين سطور تصريحات بعض المسؤولين في دول المنطقة ما يشير إلى هكذا مخطط لفلسطين. لكن ليس في أيدينا نحن القرايا ما يؤكد أن هذا هو المخطط الساري لآن لدى السرايا، وما يجزم بأن الإعداد لتنفيذه قد بدأ فعلاً.

عن السنابل والعسل والذباب...
بناءً على كل ما أوردناه سابقا، كان من الطبيعي أن يقوم وفد قوى 14 آذار اللبنانية، بمشاركة مندوب عن قوات سمير جعجع إياه، بزيارة غزة. لم تكن هذه طبعا زيارة تضامن مع المقاومة ولا مع أهلها، وإنما زيارة دعم واحتضان لمن تخلى عنها. ولم يمنع "الديمقراطي" خالد مشعل هذه الزيارة. وقام زملاؤه في غزة باستقبال الوفد بحرارة، فإذا كان رب البيت قارع دفٍ، شيمة أهل البيت هي الرقص. فهنيئا لهكذا "مقاومة" بزيارة حميمية تضامنية من أعداء المقاومة.
وكنت قد استأتُ إلى حد الغضب وأنا أشاهد واستمع لتحليلات خالد مشعل في طلعاته (الأصح سقطاته) الأخيرة في وسائل الإعلام. لقد استفاض هذا "المقاوم"، وباسم المقاومة، في كيل فائض المديح الانبطاحي والحماسي بأنظمة وقيادات مصر وقطر وتركيا التي نصرت غزة ومدتها بالصمود وانتصرت للمقاومة(؟!) هذا مقابل حديثه الفاتر والمتلعثم والعابر والسريع بخصوص إيران وسوريا وحزب الله!
كان ينقص مشعل "لإقناعنا" بهذه الهلوسات تفصيل بسيط وصغير جداً، ألا وهو أن يبلغنا بأسماء الجهات التي مدّت غزة بمقومات الدعم اللوجستي والمادي والإعلامي والمعنوي، بما فيه السلاح والعتاد بشتى صواريخه وأنواعه، والتدريب والتصنيع، وحتى بالشهداء الذين سقطوا في إطار وعلى طريق تنفيذهم وتهريبهم لهذا الدعم. أما أن يدعي بأن فتور علاقته بكل من إيران وسوريا وحزب الله، يعود لانحياز المقاومة لحق الشعب السوري في الديمقراطية، فهذا دجل نأباه لقائد حركة مقاومة، حتى إذا ما تنكر لذاته ولتاريخه وخلع ثوب المقاومة وارتدى ثوب السياسي السلطوي القابع في حض سياسة علوج – نعاج - الانبطاح الخليجيين والأخوان المسلمين المدجّنين، بعد أن أصبحت السلطة، لا المقاومة، هي خياره.

الموقف الفلسطيني
لم يقم في السابق ويجب ألا يقوم اليوم الموقف الفلسطيني والمقاوم من الأنظمة العربية على أساس مقياس مدى الديمقراطية فيها لشعوبها، وإنما على أساس موقف تلك الأنظمة من القضية الفلسطينية ودعمها لها ولحركة المقاومة في سبيل تحرير واستقلال فلسطين. ومهمة المقاومة الفلسطينية ليست تحرير شعوب عربية من أنظمة ديكتاتورية، وإنما تحرير فلسطين من الاحتلال. ثم هل أنظمة النـّعاج المعلوفة أمريكياً والمفتوحة دولها لسفارات ومكاتب اتصالات وتنسيقات ومتاجرات مع العدو الصهيوني الذي يحتل فلسطين، توجد فيها ديمقراطية أو تفقه أصلاً معنى كلمة ديمقراطية؟
لا يجوز لأي قائد، مهما كان دوره السابق في المقاومة، أن يبيع تاريخ المقاومة وأن يتاجر بدماء شهدائها وأن يخون أسراها القابعين في سجون الاحتلال. ولا أن يجيّر مصلحة المقاومة والقضية الفلسطينية لصالح عصبيته الايديولوجية وانتمائه الحزبي الفئوي المتلحف برداء الدين، إسلاموياً كان أم مسيحوياً أم... سنسكريتياً. يجوز له أن يتخلى عن المقاومة، لكن فليرتدع عندها عن النطق باسمها ولو من باب عدم توجيه الاتهام له بخيانه طريقه، خصوصا أن الخيانة ليست وجهة نظر.
لقد أضحكنا مشعل وهو يؤكد أن حركة المقاومة "حماس" ستواصل تسلحها. يا ليته قال لنا من أين ستستمد السلاح وكيف سيجري تهريبه لها. ربما مثلاً من القاعدة الأمريكية في قطر حمد، أو من مخازن الناتو في تركيا أردوغان، أو من ترسانة الأسلحة في مكة سعود. ولم أذكر مصر مرسي لأن المقاومة لن تشغل بالها بشخص مشغول في ردم أنفاق التهريب وفي المراقبة الحديدية لمعبر رفح لإثبات كونه محايداً وضامناً للتهدئة. أو ربما يكون مشعل قد قصد بمواصلة التسلح... المزيد من سلاح الفكر الأخواني الإسلاموي كبديل لسلاح المقاومة الوطنية للاحتلال.
عاش مشعل خلال العقد الأخير في سوريا محتمياً بها ومنبوذاً من أنظمة يشيد اليوم بها. انتقل قبل شهور إلى قطر. مشعل في قطر والمقاومة في خطر. لقد غير موقعة لأنه غير موقفه.
لكني لم أستأ من د. عزمي بشارة حين قرأت له مواقف شبيهة بمواقف مشعل. لقد أصابني شعور عارم بالألم والحزن وأنا أقرأ ورقته عن العدوان على غزة، الصادره عن المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات" في قطر. أحزن وأتألم على مثقف كبير قدّرتُ عالياً في الماضي القريب اتساع ثقافته وعمق تحليلاته الجدلية وجديتها وجديدها. خسارة هذا السقوط المدوي لإنسان بقامته (وهذه ليست أول سقطة له).

مشعل وبشارة
يكتب د.بشارة: "جرت استعادة روح المقاومة(؟!). وسيقود هذا إلى إرهاصات حركة مقاومة في الضفة. حماس تمسكت بحقها في المقاومة ولم تخضع لشروط إسرائيل(؟!). انتصار مرسي غيّر طبيعة العلاقات بإسرائيل وتحررت مصر من التبعية للأجندة الأمريكية في المنطقة (؟!). وأصبح موقفها فعالاً وداعماً للمقاومة (؟!). وكذلك هو موقف جامعة الدول العربية والموقف الإقليمي لتركيا (؟!). جرى التوصل إلى اتفاق تهدئة يضمن ويحقق الشروط الأساسية لغزة، إذ شمل فك الحصار ووقف الاغتيالات والعمل بجدية لانهاء الانقسام" (؟!)... إلخ من أفكار ومواقف وأحكام مغلوطة تجافي الواقع الحاصل، ويغيب عنها كلياً ذكر المخطط الأمريكي والأطلسي للمنطقة المتساوق مع خريف الأخوان ومع دعم دول الخليج العربي.
لن أناقش هكذا مواقف. ففي مقالي هذا وفي المقال السابق ما يكفي من النقاش مع مواقف شبيهة بها إلى حد التطابق أحياناً، كانت قد ظهرت في الإنشاء الكلامي لبعض وسائل الإعلام العربية. أكتفي بالقول إن خالد مشعل غيّر موقعه حين غيّر موقفه. وعزمي بشارة غيّر موقفه حين غيّر موقعه. أما شاعرنا محمود درويش فلم يغيّر موقفه حين غير موقعه.
وبالمناسبة توجد قصيدة لدرويش جاء فيها: حين كنتُ صديقاً للسنابل تدفق من بين أصابعي نهر جداول، عندما أصبحت صديقاً للعسل... حط الذباب على شفتيّ...!

لقراءة المقال الأول- الحملة العدوانية على غزة.. جدلية الانتصار والهزيمة- اضغط هنا
 

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجي إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة