الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 02 / مايو 02:02

أشلاء ذكرى../ بقلم:رافي مصالحة

كل العرب
نُشر: 06/10/12 07:45


على ساحل ممالك النسيان زرع حقلاً من وهم. أراد أن يغرس حباً بقفرٍ يحكمه العوسج. كان يمتلك كل الوقت ليبتكر كينونتها من صلصال عتمة الليل حيث تحتفل عصافير الصباح بمهرجان تدوينها وتكوينها كفرسٍ تَخبُّ في تلال الخضرة الأبديّة فينبثق عند حوافرها النرجس والبنفسج ثم تثبُ بخفةٍ نحو سماوات الرهف فتتوغل بأقاصي خباياها ما بين الظن واليقين. وكانت لديه كل الساعات كي يقرأها ويتأملها وهي تنسدل في مهجعها برقة كالخزامى وعلى مبسمها شفتان كرزيتان ارتسمتا من الجلنار المورق على ضفة أسيلها وقد انبعث منهما نشيد ملائكي متهدج يكاد يكون نشيجاً لعابد متهجد بنافلة الليل فيه تختنق العبارات بفيض العبرات. وهواجس الحيرة تتقاذفه بين هدير الفؤاد المحفوف باشتعالات التوجس والحنين وهديل الضمير المتوحد في لجج النداءات والتساؤلات حيث تلاشت الازمنة والمسافات, إلا من ذلك الصهيل !.
في ذروةِ سكراتِ اللّيل كان الزّمنُ يفتضُّ أبكارَ النّجوم والأرقُ الجامحُ في صَحْوِ عينيهِ يتناسل على أضواءِ مصابيح الطرقات, وهو في أوجِ الكرَى تُراوِده نُثارُ مشهد اللقاء وهو يحدّق في أسارير ذكرى المرّة الأولى ...
يومها, قبضت شغافُهُ على أهداب المَوْعدِ المأمولِ في مقهىً شاحبِ الملامحِ يبتلعُهُ زقاقٌ ضيّقٌ يعبرُهُ لأوّل مرّه, يضجّ بهمهمةٍ وخوفٍ ينبعثُ من جُدران صامتةٍ, لا يتبادرُ إلى سمعكَ فيه سوى ذاك الحفيف المسترسل من رئة الليل, ووقعُ خُطىً لأناس تكادُ توقنُ ألا وُجودَ لهُم, يتسللون بين مَسالكِ الدّجى الطاعنةِ بالأسرار.
وجلسا في ركنٍ متوحّدٍ خَفتَ نورُهُ, وظلّهما المنعكسُ على الجّدارِ كانَ يمجّدُ رهبةَ اللقاء. ومكثا لبرهةٍ صامتَينِ يتأمّلان سويّاً ملامح المغامره, وجَهَرَ السكونُ القابعُ في المكانِ ضَجَراً, وقد تَعالى عَبقُ المُكابَرةِ وهُما يُجاهِدان ألا تلتقي العيونُ ولو للحظةٍ, وكأنه يخشى أن تُحجّره (كميدوزا) بسهم نظرتها وتنصبه تمثالاً آخر في جنائنها, لكنّ سطوةَ الموقف جعلت العيون تتلاقى في شبه محاوره.
ودونَ أن يتحادثا, عادا بعدَها من حيث أتيا, غير أنّهما اتّفقا على معاودة الكَرَّه....
والتقيا، في ذاتِ المقهى البائس القابع بقلب الزّقاق الهامسِ برَحَى التّعاويذ والتمائم ... هي أضافت شيئاً من السكّرِ في كوبِها, وَهوَ اجتهَدَ ليضيف شيئاً من التهذيب المبتذل في مفرداتهِ, وتبعثرت أشلاء الشوق على مناضدِ مقهىً أبكمٍ, ومَضى الحديثُ بمواضيعَ ليست لها ذكرى, ومرَّ الحبُّ بمحاذاة قلبين دون أن يتوقف ليتعرّف عليهما وافترقا على الوعد أن يلتقيا, ثم عادا والتقيا, وكان الوجوم يملأ المقهى الحزين وبدا جليّا أنّ الحُبّ كان غائباً عن هذا اللقاء.كان وجهُ القمر شاحباً مثل حديثهما وكانت كلماتُهما اليتيمة المتصاعدة بشقّ الأنفس باردةً, مثلَ كأسيهما.
وفي هدوء، في أوج الصمت والهدوء، نادى على النادل كي يدفع الحساب وبعدها همس لها: "لقد آن لقلبي الإنسحاب".
 

موقع العرب يفسح المجال امام المبدعين والموهوبين لطرح خواطرهم وقصائدهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع منبرا حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة