الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 28 / أبريل 02:02

غِيابُ بُوصَلةٍ في زمنِ التِّيه!/ بقلم:عبد عنبتاوي

كل العرب
نُشر: 09/09/12 18:20

غِيابُ بُوصَلةٍ في زمنِ التِّيه

(رِثاء فكرة في صورةِ إنسان)

عبد عنبتاوي

لَيْسَتْ هذه مَرْثية ولا كَلمة تأْبين.. لأن الموتَ يُحاوِلُ دَوْماً إحكامَ حِصارِهُ على مساحِة حياتِنا الضّيقةِ أصْلاً، في زمنٍ ضاقَ بالمعاني، ويُحاولُ قهرنا برائحةٍ مُلوّنةٍ دون استئذان.. ولأن الموتَ يبدو وَجْهٌ آخر من وجوه الحياةِ الحقيقيةِ، وقد يكونُ مُكمِّلاً لها..

فنحن لا نرثي، هُنا والآن، الرّاحل الكبير ناجي عَلُّوش، فهو دائم الحُضور والتدفُّق، بل نرثي أنْفُسَنَا بِغيابِ بُوصلةٍ في زمن التِّيه.. فهنالك مِنَ الناس مَنْ لا يرحلون وإنْ ماتوا.. لا يغيبون وإن ترجَّلوا..
لم نعرفْ الفقيدَ عن قربٍ، ولكن إذا كان النصُّ والموقفُ هو مِرْآة صاحِبِه فقد عرفناه جداً وجيِّداً..

فقد كان ناجي عَلُّوش، ولم يَزَل وسيبقى، فكرةً في صورةِ إنسانٍ.. ففي نَصِّه وحياته، في سيرتِهِ ومَسارِهِ، اختزالٌ لكثيرٍ من المعاني ..

وبهذا المعنى، فإننا اليوم لا نستحضر الرجلَ فحسب، إنما نستحضِرُ الفكرة ونستذكِرُها، وأيُّ فِكرةٍ.. امتَشَقَ قَلَمَه باكِراً في الدفاع عن العقلِ والحريةِ والحقِ، دون اختلالٍ في الاوْلوِيات.. امتَهَنَ، مُنذ البدايات، صِناعةَ الوعيِ وفَوْلذَةَ الإرادات، وعَرفَ كيف ومَتى ولماذا يقولُ لا ، دُونَما تَلَعْثُمٍ أوْ وَجَلٍ..فَمِنِ الثورة والجماهير والمسألة اليهودية وهديِتِه الصغيرة الى المفاهيم والإشكالات في الديمقراطية، مُروراً بنحو ثورة فلسطينية جديدة والحركة القومية العربية والمشروع القومي، تَحرَّك بين السياسةِ والشّعرِ والأدبِ والبحثِ والفكر المُنتِجِ بِرَشَاقةِ فارسٍ ديونيزيّ، دون أن يخشى السيزيفية.. حتى غَدا أحدُ الرموزِ النادِرَةِ التي حَلَّقَتْ وجَمَعتْ بين الفكرِ والادبِ والسياسةِ بتناغُمٍ قَلَّ نظيرُهُ في الحالةِ العربيةِ.. فقد استطاعَ أن يُغَذّي مواقِفَه ونَشاطه السياسي بِبُعدٍ فكريّ، وتمكَّن من ترجمةِ فكرِهِ في الممارسةِ السياسيةِ والحياتية والمواقفِ..

ناجي عَلُّوش آديبٌ عُنقوديٌّ، شاملُ المعرفةِ والمواهبِ والإهتماماتِ، ومِنَ القِلَّةِ القليلةِ، في الحالةِ الفلسطينيةِ والعربيةِ البائِسَتَيْن، التي لم يُصِبْها الإنفصامُ، بل غَذَّى الثقافة الوطنيةَ والقوميةَ بعقلٍ نَقْديّ ثاقبٍ ومُتناسِقٍ، في القولِ كَما في العملِ..

إنه المثقف العُضويّ الحقيقيّ، في عصر الصحراء.. ولأننا لا نستطيعُ، هنا أن نقولَ عنه وفيه كلَّ شيءٍ، بعيداً عن المُغالاةِ والتقديسِ، بِما تَنْأى عنه مَقاصِدُنا، لكن لا بُدَّ لنا أنْ نُضيفَ: رَفع قضيَّتَهُ الوطنية والقومية والتقدمية والثورية أكثر مما رَفَعَتْهُ هي، فَرَبِحَها هو وخَسِرَتْهُ هي..أفْرَط في التأطُّر الحزبي والسياسي، على حساب حريَّتِهِ أحياناً، دون أن يَفْقِد الإتّجاه ودون أن يقبَع في الدوغمائية.. ولأنه لم يُمارِسْ الرِّياءَ والخيانةَ العقلية، وحافَظَ على الأمانةِ الفكريةِ، والعُذريةِ السياسيةِ، فلَمْ تَنَلْ قيمتُهُ وقامَتُه المَكَانَةَ التي تَسْتَحِقَّانها بيننا.. عَشِقَ الحياةَ فتعَمَّد في صوْمَعتِها، وَلم تكن الحياةُ لديه مُجرَّد محطة بقدر ما هي مَسْؤُولية.. ألَمْ يُقارِع آنيةَ الزمنِ وإسقاطات الحياةِ وهمومَها، بعقليةِ لاعِبِ شطرنجٍ لا بعقليةِ لاعبِ نَرْدٍ، وبآلياتِ الجَمالِ والإبداعِ لا بأدواتِ الماضي والإتِّباعِ.. حتى مَنَحَتْهُ الحياةُ معنى ومَنَحَها هو ماهيَّة.. تحلَّى برُؤيةٍ وشَجاعةٍ معاً في زمنٍ خَلا منهما، إلاَّ ما نَدَر.. وكانَ من أوائلِ مَنْ رَأوْا ماذا يجري من أحداثٍ في سوريا ولِماذا، وما هي خلفياتها ومعانيها واتجاهاتها ومَراميها، عَبْر بوصَلَتِهِ الفلسطينية والقومية والتقدمية المُقاوِمَة..

رَأى في دمشقَ بوابَةَ فلسطين، وحامِلَةَ المعاني، ورَحَلَ ذارِفاً دمعةً بعدما تَلَمَّس مُسوخاتٍ بَشريةٍ، بصورة الأعرابِ ولبوسِهمِ، قبلَ وأكثرَ مِنَ المستعمِرين، يُحاوِلون خَدْشَ وَجْهِهَا وإِزاحةَ وِجْهَتِها..
ولأنه تَحَرَّك بين المفكر الشاعرِ والشاعرِ المفكِّرِ، وسارَ – واثِقاً وقادِراً – بين المستحيل الممكِن والممكِنِ المستحيل، باتَ من القلائلِ الذين يَسْتأهِلون ويستحقون الإحتذاءَ والإقْتِدَاءَ بِهِ..

وأخيراً، ونحن نَطِلُّ عليهِ، الآن وهُنا، من شُرْفَةِ حياتِنا وقُبورِ صحرائِنِا، أخالُهُ يُحَدِّقُ بِنا قائِلاً: كَفانا موتاً سريرياً.. لا تنظروا الى الوَراءِ حَدَّ المُراوَحَةِ، بل الى ما وراءِ الأشياءِ والأزمانِ والأحداثِ.. لا تنتظروا التاريخَ بل إصنعوه.. إتقِنوا حِرْفَةَ النَّمْلِ بإرادةِ الوعيِ والوعي الإراديّ، وكونوا كنيرانِ المَجوسِ كي يَمشي التاريخُ كَما نُمْلِي.. واصِلوا تَقَدّموا ولا ترتَعِشوا.. أحِبّوا الحياةَ، مَهْما آلَمتكُم، ولا تَنْسَوْا معاركها واستحقاقاتها.. هكذا أسمَعُهُ يقول، أو هكذا أُريدُ أن أسْمَعَهُ، أوْ هذا فِعلاً ما يقولُه ناجي عَلُّوش، الآن وكُلِّ آنٍ، لنا ولغيرنا.. لأنه ابنُ الحياة..
اُلقيتْ هذه الكلمة في حفلٍ تأبينيّ للمفكر

ناجي عَلُّوش في رام الله- 12/9/6
(رام الله- 12/9/6)

موقع العرب يفسح المجال امام المبدعين والموهوبين لطرح خواطرهم وقصائدهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع منبرا حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع على العنوان:alarab@alarab.net

مقالات متعلقة