الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 05 / مايو 13:01

من حكايا الأزمنة المرّة بقلم: رافي مصالحة

كل العرب
نُشر: 10/08/12 07:34,  حُتلن: 10:08

أوقدت شمس المخيّم انبعاثاً جديداً للهيب الحياة المتوقّدة بالصخب والتّعاسة، معلنة ميلاد بَدْءٍ جديدٍ لرواياتٍ تنهل مفرداتِها من سطوح الصّفيح التي تعجز أن تموت، بينما الناس والعصافير وذكريات ليالي الحصاد تتلاشى كدخان المدافئ الذي أضفى على فضاء المخيّم لوناً قاتماً آخرَ من وحي الكآبة التي ما انفكت تغوص في اعماق الجراح الملتهبة.
ما أن تسلل نور الفجر الأول من لجّة الظلام حتى كان أبو عليّ في بداية مسيرته اليومية المنهكة الى مزرعة مشغله اليهودي في المستوطنة المجاورة داخل الشاحنة التي تحمل عشراتٍ ممّن مثلهِ من أفراد قافلةٍ مسحوقةٍ مُرهَقة، وطقوس الإذلال اليوميّة تأبى أن تتبدل، الحاجز العسكري تلو الحاجز، والتفتيش تتبعه الإهانات وأبو عليّ لا يتذمر ولا يتبرم مما بات فصلاً من وقائع حياته، إذ لن تكتمل المسرحية بدونها، تلك هي الحقيقة التي تسبغ العلقم على المرارة المستشرية في روح الفلسطيني رغم أنفه !!.
لولا أزمات الرّبو التي تعتريه مراراً وتخنقه لما كان لأبي عليّ أي شكوىً، فاليوم أذكت النشوة صدره بفرحةٍ لم يرها منذ دهور، إنها فرحة نجاح عليّ في التوجيهي التي أضحت حديث أزقة المخيم وسبب فخر العائلة كلها. لعل ومضة السعادة المتخمة باللوعة هي سرّ شموخ هذا المنكوب المجبول بشيء من التشبّث بالامل المعقود بنواصي الصبر الذي لا حدّ له. كان أبو علي ينظر كل ساعةٍ الى السّماء وكأنه يحث الوقت على أن يسارع الخطا، وهو يحدّث بخيلاء جليّةٍ باقي التعساء في عمله عن وعده الذي قطعه لعليّ أن يشتري له اليوم من المدينة بذلة تليق بأستاذ، يرتديها عندما يتوافد أهل المخيّم للتهنئة احتفاء بإنجازه، "كيف لا وهو إنجاز المخيم كله"، اردف أبو عليّ وهو يتسامى شبراً أو يزيد عن ثرى الأرض من فرط الإعتزاز بابنه البكر، أمله وأمل امّه التي ثكلت ابنها قبل حولين وهو في طريقه إلى مدرسته في إحدى مداهمات الجيش الصباحية. كان عليّ هو لمسة النور الباقية التي أضفت معنى لحياة هذين الوالدين بعدما اصطبغت بسواد الحرقة والألم. عاد أبو علي إلى البيت ولهفة إضفاء السعادة على محيّا عليّ تشغله عن إنهاك يوم مهلك من الشقاء، واصطحب بِكرَهُ نحو المدينة وسط زغاريد أم تتشبث بلحظة الفرح العابرة في سيل دافق من الاحزان وهي لا تكاد تحبس عبراتها وصوتها يختنق بين صدح زغرودتها وحرقة البكاء وهي تزيّن مدخل الكوخ المتهاوي بالحبق وبأغصان النخيل, ومضى الإثنان حتى لفهما الأفق.
عند الحاجز العسكري، أوقفهما الجنود وقد آن لهم حينها التسلي والعبث بأول من سيجلبه قدره اليهم من فرط الملل، وهل هناك أحسن من عربي ساذج للتسلية يقضي بها الجنود على مللهم ؟. حاول ابو علي (وهو يتصنع ابتسامة المستجدي المتوسل) أن يشرح أن علياً نجح بامتياز في التوجيهي وهم في دربهم الى المدينة لشراء بذلة جديدة، فباغته احد الجنود بركلة في بطنه هوى على إثرها نحو الأرض. انتفض عليّ محاولاً أن يقترب باكيا نحو أبيه الصريع، فألقى به الجنود أرضاً وصوّبوا نحوه البنادق وهم يصيحون به ألا يتحرك من مكانه، بينما عكف آخرون على ركل الوالد بأحذيتهم في كل انحاء جسده وهو يلتقط انفاسه بتثاقلٍ وصعوبةٍ، وعلي يصيح: "انها الأزمة, أتركوه، هو يعاني من الأزمة" لكنّ أحداً لم يلق له بالاً، والأب المختنق تتقاذفه أحذية الجنود بلا هوادةٍ، حتى امتدت يده بغتة إلى جيبه فصاح الجنود مرتاعين: "سلاح، سيشهر السلاح !!" فانهمر على الجسد المنهك وابل من الرصاص جعل من الوالد الفخور جثةً تسبح في نهرٍ من الدم الدافئ. وعندما اقترب احد الجنود ليرى ما في جيب الجثة، أخرج "سلاحا" تجسّد في هيئة "البخّاخ" (المنشاق) الذي اعتاد الأب البائس استعماله عند كل نوبة ربو.
بدأ المخيم يغرق في الظلام، وعلى باب بيت أبي علي، تلاعبت النّسمات بأغصان النخيل المتهدلةِ كأنها لا تكترث بالأنين المخنوق المنبعث من داخل الجدران كأنه الناقوس الذي يزعج هيبة السكون الذي يحكم بطغيانه على الطرقات التي اعتراها الفراغ، وغفا المخيم لعلّه يصحو على رواية أخرى تصوغها أزمنة كدرةٌ مُرّة.

موقع العرب يفسح المجال امام المبدعين والموهوبين لطرح خواطرهم وقصائدهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع منبرا حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع على العنوان: alarab@alarab.net
 

مقالات متعلقة