الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 28 / أبريل 13:01

يوسف عجاوي رب أخ لك لم تلده أمك/بقلم:نضال حمد

كل العرب
نُشر: 08/06/12 17:40,  حُتلن: 08:48

أيها الحبيب يوسف سمحت لنفسي أن أكتب وداعي لك قبل أن تمضي الى حيث لا عودة .. وقلت يوسف سيفهمني ولن يعاتبني على ذلك كما قد يفعل البعض. قلت: أنك لن تفعل ذلك لأنك " تلتقطها عالطاير". وثانيا لأنك سوف لن تكون معنا بجسدك، بل سنراك دائما معنا بروحك وبسمتك ومحبتك وبكل الخير الذي جمعه الله في شخصك.

قد يظن غيرك أنني جننت أو أن مساً ما أصابني لأنني أودعك قبل أن ترحل. لكن تأكد يا يوسف لا هذا ولا ذاك ... كل ما في الأمر أنني أعاتب الحياة والموت بسبب آخر أيام حياتك وموتك..

يا صاحبي، أيها الطفل الكبير، أيها الرجل الأمير !! أردت أن أودعك قبل أن تودعني وتيقنت من ذلك بعد الكلمات القليلة التي استطعت أن تنطق بها وتقولها لي من على سرير الموت يوم اتصلت بك كي أطمئن عليك.
يومها شعرت أن صقرك القوي والعصيّ على الاستباحة قد استبيح مرة واحدة، فكرهت المسافات والفراق والبعد وقلة الحيلة وعدم القدرة على السفر واللقاء بك قبل أن تتدهور حالتك الصحية تماما. وكرهت ذلك أكثر مساء هذا اليوم لأنني تيقنت من عدم قدرتي على السير خلف نعشك.
سألني عنك مؤخرا صديق لي نرويجي عرفك بشكل عابر خلال زيارتنا الأخيرة للبنان، فقلت له :
حتى أول أمس كان يوسف عجاوي مازال يرقد على سريره الأبيض في مستشفى بالعاصمة التي أحبها دائما وأبدا. يرقد على سريره بانتظار العودة الى فلسطين، ففلسطين هي جنتنا. لم يعلق صديقي على كلامي لكنه أبدى تفهمه لما قلت.
قلت لصديقي الذي لمحت الحزن في عينيه
يرقد يوسف الآن في تلك المدينة التي نحب والتي قضى عمره متنقلا بين أحياءها وشوارعها ومؤسساتها، باحثا جادا وكادا عن لقمة العيش وعن المستقبل الأفضل لعائلته ولأطفاله ، هؤلاء الصغار الذين كبر بعضهم، والذين كانوا يتراكضون من حوله طالبين منه شيئا ما، سرعان ما كانوا يجدونه بسمة على وجهه وبضع وريقات مالية يخرجها من جيبه، يوزعها عليهم وعلى من يكون معهم من أطفال الجيران والحارة. أحب أن يكون شخصا متميزاوكان كذلك. لكنه اليوم صعد قطار دخل به نفق مظلم ولم يتوقف في أي محطة. غاب قطار العمر ولم يرجع يوسف العائد الى الجليل من هذه الرحلة الأبدية.
يوسف عجاوي.. ابو محمد.. الأستاذ كما كانوا ينادونه...
أحبه الكبار والصغار من المعارف والرفاق والأصدقاء والجيران وبالذات من الباعة الفقراء الكادحين وكذلك من الصيادين الذين لم يبخل عليهم يوما. كان يحب فاكه الفلاحين وخضرواتهم القادمة من الأرض الطيبة...من جنوبي الجنوب ، هواه كما قلبه جليلي. كان يحب أيضا فاكهة البحر وأسماكه الخارجة من بحر بيروت وصيدا وصور، نفس بحر يافا وحيفا وغزة الذي لم ييأس من العودة إليه مبحرا مع سفن العودة. فالطريق الى علما بلدته في الجليل مجبول بالعرق والدماء وتضحيات أبناء المخيمات ، تلك المخيمات التي أحبها وكان واحدا منها، وكره فوضاها والفوضويون العابثون بها، والآخرين الذين يحاصرونها من خارجها ويذلون ناسها.
كان يوسف عطوفا على الفقراء والمعتازين حد الهوس، كل هذا نتيجة قلبه الطيب وأخلاقه العالية. كان يفعل ذلك بالرغم من أنه لم يكن يملك الشركات والعقارات والأموال، فبيته ورثة من والديه، وسيارته الحديثة ابتاعها من عرق جبينه ومن قوت عياله. لم يمد يده الى قوت الآخرين وأملاكهم كما لصوص الوطن والمنفى.. ولم يسرق لقمة عيش أي إنسان . لقد حرص دائما على مد يد العون والمساعدة للمحتاجين.
أذكر قبل سنوات عندما سافرت الى لبنان أنني قمت بزيارة الى صديق هو رئيس مؤسسة فلسطينية كبيرة تعنى بشؤون اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. ورافقني يوسف في تلك الزيارة. عندما دخلنا المكتب وجلسنا وعرفت صديقي على يوسف. قال الصديق موجها كلامه الى يوسف :" ألست أنت الأستاذ الذي قدم إلينا في صور وتبرع بمبلغ من المال لبناء مسجد في مخيم... "... لم أعد اذكر اسم المخيم لكن اعتقد إما مخيم الرشيدية أو مخيم برج الشمالي.
نجح يوسف في أعماله وفي حياته اليومية بالرغم من وجوده في بحر يعج بالمشاكل والتعقيدات الكبيرة والصغيرة. كان مؤمنا بالإنسان، بالعقل ، بالعلم ، بالنور ، بالتعقل وباللا تشدد. كان إنسانا حرا يحترم عقول الآخرين وفي المقام الأول عقله هو نفسه.
كان ينزعج كثيرا من الاستعراضيين والزائفين والفاسدين المفسدين الذين تكاثروا على جدران وشوارع المخيمات والمدن والبلدات والمناطق في لبنان كما يتكاثر الفطر في الغابات.
كان يرى فلسطين كقطعة جبن كاملة لا كقطعة جبن سويسري مثقوبة من كل الجهات. وكان يرى الثورة كبحيرة مياه صافية ونقية ، لكنه فيما بعد وبعدما اجتاحتها مافيات من المملوكين والمنبوذين صار يرى فيها حفرة موحلة قذرة وموحشة، مكب قمامة يتجمع فوقه مثل الذباب تجار آلام الفقراء والمحتاجين والمستشهدين والجرحى والمعطوبين. ولست وحدك يا يوسف من رآهم هكذا وهم بالأصل هكذا وأسوأ مما تظن... هناك شعب كامل يرى فيهم نفس ما رأيته أنت لأنهم شياطين مرحلة طالت كثيرا..
ديوان يوسف
حكمت الحياة على يوسف المتنور، اللاجئ الفلسطيني الذي يحمل وثيقة سفر لا تؤهله للسفر الى أي مكان آخر سوى القبر. حكم عليه الزمن أن يسكن في بيئة فيها خليط من الناس. كان كل يوم صباحا وفي المساء كذلك يستقبل الأقرباء والأصدقاء والجيران والأحبة في صالون منزله الصغير، تماما كما كان المرحوم والده الجليل ، العم أبو الحاج. هذا الرجل الموسوعة الجليلية الفلسطينية التي خسرناها قبل سنوات. اذكر انه أثناء بعض زياراتي الى لبنان كان المرحوم أبو الحاج يحدثنا بحضور يوسف والآخرين عن علما وقرى الجليل الفلسطيني، حيث يستحضر الموروث الثقافي لفلاحي الجليل الفلسطيني، عادات وتقاليد الناس، أنواع النباتات والأشجار المثمرة والغير مثمرة ، قرى المنطقة وعائلاتها وعاداتها. كان يروي الحكايات ويتلو الشعر ويذكرنا بأن فلسطين أرضنا فقط أرضنا وحدنا. وكان يحرص على تقديم الفاكهة بيده ، وكذلك القهوة العربية التي تفوح رائحتها الزكية بقوة. ورث يوسف الكرم عن والديه وهكذا كبر في كنفهم هو وأولاده. عاش معهما شابا عشق وطنه وأعتز بفلسطينيته، تنكر للأوباش وتذكر دائما بأن الوقوف في صف الحق ومع المظلومين والفقراء والكادحين واجب أخلاقي وإنساني، لذا كان إنسانا يحب الناس ويحب الحياة ، فأحبه الناس وأحبته كما خسرته الحياة.
ابنتي وردة تسال عن عمها المحبب الى قلبها
سألتني عنك اليوم صباحا ابنتي وردة وهي في طريقها الى المدرسة. فأطفالي يكنونى لك مودة خاصة ... لا شيء عجيب في هذا الأمر لأنك كنت حبيب الأطفال
هم بالمناسبة يذكرونك دائما بالخير..لم يصدموا بخبر وفاتك ، لأنني جهزتهم لذلك منذ ايام عديدة .
سألوني عنك يا صاحبي فأجبتهم:
يبدو أن الله اختار عمكم يوسف ليكون قريبا منه ولا ندري متى يأخذه منا :
قبل أيام سألني أحدهم أيضا عن صحتك فأجبته:
هناك بعيدا بعيد في بيروت التي أحببناها وأعطيناها ما امتلكت الأفئدة من الأغاني والعصافير، يرقد يوسف. هناك يرقد الصقر الذي صار صقرا مستباحا،حيث تشابكت الأجهزة والأسلاك والأنابيب في جسمه وفوق جسده،. هناك استباحه مرض العضال كما يستبيح العضال السياسي والطائفي هذه الأمة الممزقة والمشرذمة من المحيط الى الخليج. استباح داء العضال جسده الطريّ ، هجمة خلف هجمة، قاومها كلها بإرادة العاشق الذي يعشق عائلته ويعشق الحياة في كنفها .. الحياة مع زوجته الذكية والقوية والطيبة والرائعة والصابرة والمؤمنة بالقضاء والقدر، مع شقيقتي سهاد - أم محمد.
آه لو تعلم يا يوسف كم تعذبت هذه المرأة ، محبوبتك ورفيقة دربك وهي تتحدى الدنيا كلها،مدافعة عنك وعن حقك بالحياة وبالنصر على هذا العضال اللعين. وكذلك في الدفاع عن حبكما وعن حياتكما وعن أطفالكما، ولرد الداء عنك وتعويضك بالحب والحنان.
آه لو تعلم يا يوسف كم أنها قوية وصاحبة إرادة صلبة. تعجبت من رباطة جأشها وقوتها وإرادتها وتوازنها ونجاحها في ضبط عواطفها ودموعها وصراخها. منها استمد صاحبك نضال قليلا من الصبر والقبول بالقضاء والقدر.
لكن أيها القدر لماذا تختار الطيبين وتأخذهم بلا رجعة فيما الشريرين يصولون ويجولون في عالمنا الكبير؟.
يا سهاد يا شقيقتي !
أنا متأكد لو أن يوسف استطاع أو سمحت له صحته وسمح له الداء اللعين أن يلقي نظرة في قلبك لوجد كل أحزان العالم قاطبة متجمعة هناك في هذه اللحظات الصعبة. ولقال لك : لا تبكي يا حبيبتي .
لو تعلم يا أخي الذي لم تلده أمي كم تخزن زوجة قلبك في قلبها من الحزن والقهر والألم لأجلك .. كانت تراك يوما بعد يوم وكأنك عنقودا من العنب تتساقط حباته حبة بعد حبة.. ومع كل حبة كان تتساقط دمعاتها دون أن يراها احد من الذين يتجمعون حولها.. كانت تؤدي دورها كأم للأطفال الذين عليهم أن لا يعرفوا ان اباهم عما قريب ماض بلا عودة وسوف يرحل خلال أيام. كانت تحرص على أن يعرفوا ذلك على مراحل حتى لا يؤثر ذلك على نفسياتهم ودراستهم وامتحاناتهم..
كان قلبها ينزف مثل قلبك يا صديقي... ولم تتمكن مثلك تماما من صد ورد هجمات هذا المرض اللعين. مع أنها قاومته معك بكل ما في القلب من خشية و حب وفرح وحزن وألم ، وبما تختزن لك فيه من إخلاص وأمانة وخفقان دائم لإنسانية الإنسان.
كان ومازال يوسف عجاوي أي أخي الذي لم تلده أمي ، الذي استباحه داء العضال ففتك به، كان إنسانا يحب الناس والحياة ، حبا جما.
كان رجلا بقلب طفل لا يعرف إلا أن يكون إنسانا في زمن الحيتان والوحوش التي تنهب وتأكل كل شيء في برنا وبحرنا.
كان يشبه زيتون علما وتفاح الصفصاف وبرتقال يافا وحيفا وعنب الجليل والخليل. كان فلسطينيا ينتمي لأرض الآباء و الأجداد.
يوسف الاستثنائي
منذ ما بعد الرحيل عن بيروت سنة 1982 لم يعد بإمكاني فهم كثير من الناس في لبنان أو التفاهم مع كثيرين من الأصدقاء هناك، حتى مع الأقارب ومع أقرب هؤلاء الأقارب الذين أحبهم وأغار عليهم من أي شيء. قلة هم الذين بقي التفاهم معهم قائما والنظرة لأمور كثيرة بقيت مشتركة والهموم واحدة والتطلعات متشابهة، والحسابات مدروسة بعقل ووعي وتأني.
كان يوسف واحدا استثنائيا في طليعة هذه القلة التي بقيت افهم عليها وبقيت تفهم علي. فلغته العربية ظلت نفسها ولهجته الفلسطينية بقيت على حالها في زمن تغيرت فيه اللغات واللهجات و الهموم والأحاديث والقضايا. إذ في هذا الزمن في الألفية الجديدة صارت الأحاديث اليومية والهموم الحياتية للكثيرين أحاديث بعيدة عن مشاكل الناس اليومية ولا يمكن أن تسهم في حلها. ولا يعجب الإنسان إن أتاه طفل صغير وسأله أمام الجميع : تصلي أو لا تصلي؟ تصوم أو لا تصوم؟ لباسك غير شرعي... مشاهدة التلفزيون حرام ... منذ زمن والأحاديث التي كنت اسمعها كلما سافرت الى أمكنة قلبي تكون عن نفس الأشياء والقضايا. حتى أنني لاحظت أن لباس وشكل الإنسان في بلادنا المتعبة قد تغيروا تماما.
آلمني قلبي وأرتج قلمي حين كتبت عنك واليك قبل أيام وحيث كنت على يقين بأن ما تبقى لك في الحياة ليس سوى أيام أو ساعات .. لكن عدم معرفة طفلك الأصغر خالد بحالتك منعني من نشر رسالتي لك وأنت على سرير النهاية.
يوسف وجريدة الأخبار كل يوم سبت
بعد رحيلك يا رفيقي من سيشتري جريدة الأخبار صباح كل سبت ليتابع مقالات صديقي الذي صار من حيث لا يدري صديقك، صديقنا اسعد أبو خليل. الذي أحببته أنت يا يوسف لأنه كما قلت لي أنت نفسك:" هذا الرجل يحب فلسطين... وقد بدأت اشتري جريدة الأخبار كل سبت بعدما قرأت مقالته بعنوان( لست لاجئا فلسطينيا في لبنان) والتي فرد فيها مساحة كبيرة للحديث عنك وعن تاريخك النضالي... أسعد منا وفينا، رجل شجاع ، لبناني جريء وقلبه فلسطيني.".
تلك كانت كلماتك يا يوسف وتلك الكلمات ستبقى محفورة في صخر ذاكرتي.
كم أنت قاس أيها القدر وكم أنت قاهر وكم نحن ضعفاء أمامك.. نقف مذهولين حزانى، مسلوبي الإرادة، ضعفاء أمام شيء فتاك اسمه مرض العضال، يأخذ هذا اللعين، شيطان الموت والحياة، يأخذ منا أحبتنا الواحد تلو الآخر ولا نستطيع فعل شيء. حتى الطب كما العلم يعجزان ويستسلمان بعد حين ..
آخر مرة استطعت التحدث معك حينما اتصلت بكم هاتفيا وكما جرت العادة من سنين طويلة طلبت رقمك الخليوي، لم ترد أم محمد بل رد شقيقك صبري الذي أوصلني بك:
سألتك كيف حالك يا صديقي؟
أجبت بصوت خافت متعب ومكسور : الحمد لله ..
قلت لك: يا صديقي يوسف لا تسمح للمرض أن يتغلب عليك .. قاومه .. كنت أعرف أنني أكذب عليك وعلى نفسي لأن اليوم المنتظر قد يأتي في أية لحظة وهو أصلا قاب قوسين أو أدنى. لقد حل اليوم يومك الذي لم تكن تدري به ولا أحد في الدنيا يدري به. وها أنت يا صاحبي تمضي الى حيث مضى من سبقوك وسبقونا.
اليوم سوف نسجل في دفاترنا وذكرياتنا وعقولنا وقلوبنا أنه يوم رحيلك .. أهي نكسة جديدة؟.
بعد اليوم يا يوسف لن يكون السفر الى لبنان كما كان سابقا. وسوف يمضي وقت طويل قبل أن اعتاد على عدم ملاقاتك وعلى ملاقاة غيرك يستقبلني هناك ويرافقني في المشاوير البيروتية.
أخي يوسف تمنيت لك نوما هانئا بلا تعب وبلا ضجيج وبلا عذاب وبلا ألم.. نومة هانئة و هادئة على كتف زوجتك- شقيقتي سهاد.
وداعا يا أخي الذي لم تلده أمي فبعد اليوم لن تعد الدنيا كما كانت.

رفيقك وصديقك الحزين نضال حمد – أوسلو

موقع العرب يفسح المجال امام المبدعين والموهوبين لطرح خواطرهم وقصائدهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع منبرا حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة