الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 16 / مايو 08:01

حب ينتظر... بقلم فؤاد خوري من عبلين


نُشر: 26/02/08 07:57

بعدما انتظر القطار طيلة أسابيع وشهور، ها هو الآن منذ الصباح الباكر يسعى جاهدًا لأنْ يصل المحطة، دون أن يعيق ذلك إيَّ مشكلة، فبات القطار له رمزٌ ُلأيِّ عائق، يقتضي ألاّ يركبه، تارةً ينهش المرض جسد أمه، وتارةً أخته الصغيرة تتأوه، فكيف له أن يركب القطار وينسى انه أخٌ لأختٍ وابنٌ لأمٍ.
كيلومتراتٍ عدة مشى حتى وصل المحطة، فبيته في أسفل الجبل يقع، ما  إن وصل حتى أضحى مرهقًا من المسير، القطار كان مكتظًا، وجد نفسه تائهًا بين جموع البشر الغفيرة، جاهلاً ما ينتظره، فأنينُ أمه ما غاب عنه مطلقًا، وجد نفسه يجلس بجانب امرأة تبدو في الأربعين من عمرها، بين يديها تمسك كتابًا عنوانه " العطاء والزمن" غير العنوان لم يقرأ منه.
لم يشعر كيف مضى الوقت وهو في القطار، فالنوم استحوذ وسرق منه الشيء الكثير، بلغ القطارُ المكان المنشود، آخر من نزل فيه كانت فتاة في العشرين من عمرها، رأت هذهِ أنَّ القطار خلا إلاّ من هذا الشاب، فأزمعت أن توقظه من غفوته، حالما قررت ذلك رأته يستيقظ، وإذ به يرى عينين عسليتين، فامتقع  وجهه، وأضحى  وكأنَّ به إزاءَ منصةٍ، يخطو نحوها  لاستلام جائزته، دفعه الفضول أن يسأل "من؟" لكن الحروف غصت في حلقه وأبت أن تنقذه من مأزقه!
نزل القطار وعقله يرفض فكرة ألاّ تكون هي معه، ظنَّ أن ذلك "حبًا من أول نظرة"، لكن ما إن ولج الحافلة، ليصل مكانه، حتى زال ما قد ظنه.
فعادت هموم الحياة تقتسم حيزًا من قسمات وجههِ، تفكيره، أحلامهُ وماضيهِ،... ماضيه الذي ارتبط بأمٍ حملت ابنًا وحلمت له ولأخته بالحياة الرغيدة، فأبوه لا يعرف عنه شيئًا سوى اسمه، فالسنون قد طوت من ملامحه يومًا بعد يوم، حتى استطاع منير بفضل إرادته التغلب على عواصف سوداء كادت تجتاح خياله، لكن دون أن تثير زوبعةً.
 في حياته لم يحب إلاّ واحدة، هي التّي ارتعش لها فؤاده، دومًا تمنى أن يُسعد معها، أين هي الآن ممّا يفكر، ففي بحر دموعه، أيَّ دمعةٍ تكون، ومتى ستسقط؟!
عرفها منذ الثانوية، كانت في صفه أربع سنوات، كتب لها القصائد وضّمنها ما اختلج في حناياه من وجد وعشق، لا يذكر أنه تحدث معها كثيرًا، فالقلم وحده كان المُتنفس وفسحة الأمل، بعد أن أنهى تعليمه الثانوي، الآن لا يدري عنها شيئًا، فقد كانت من بلدة أخرى، مرَّ الوقت في الحافلة بتثاقل وهو يفكر، وحين نزل منها، مشى مسافةً ليست بكبيرة حتى وصل، ذُهل حين رأى فتاته التّي راسلها وكانت هي أيضًا تكتب له.
هو نسيَ أمّا هي فلم تنسى، لم تنس الثاني عشر من تموز، اليوم الذّي تواعدا فيه أن يلتقيا، فأخر رسالة كان قد استلمها منها مضى لها عامان، رآها تنتظر عند مدخل المشفى، فقد كتب لها عنه، عن الألم الذّي ألمَّ به، وهي لم تتوان مطلقًا عن البحث سبيلاً  لعلاج أمه، طيلة هذه المدة، أدركت الحب الذّي يكنّه لأمه،  تمنت قليلاًُ منه، فأرادت أن تُهيئ له تلك المفاجئة، في نفس اليوم الذّي عرفت فيه أنّه سيجري لقاءًا مصيريًا مع الأطبّاء.
مسيرة البحث عن دواء هو الآن هاجسه الأوحد، علمته الحياة أن يصمد إزاء من أحب، فصمد. الآن وجد حبها له يشتعل، وقد بلغ ذروته، حبًا صادقًا، هو من أعطاه الزمن وقتًا، ولكن لم يمهله كثيرًا، فوجد الآن من يعطيه ولا يضنّ عليه، وجد الآن من يشاركه الحب.... والألم.
وجد الآن قلبين ينبضان لأجله، واحد خالهُ توقف، والآخر أدرك ما القلب الأول.
ودموعه تنهمر على وجنتيه، ضمّها لصدره، وها الكيس الذّي تحمله يقع منها فينتشله، ويجد بداخله دواء، يجد فيه قلبًا يتوق لكلمة "أحبك"، لم يكن وحيدًا في آلامه، كان له من يشاركه، ولو أنهّا لم تكن معه.
وفي همومنا نجد من يشاركنا، حتّى إن لم يكونوا معنا.


لإرسال مواد أدبية وشعرية وخواطر لزاوية منتدى العرب الرجاء تحويلها إلى البريد الالكتروني التالي، وهو البريد الخاص بالمنتدى:
montada@alarab.co.il

مقالات متعلقة