الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 05 / مايو 19:01

قصّة قصيرة بعنوان: عندما ضاق المدفن/بقلم:سعيد نفاع

كل العرب
نُشر: 09/04/12 16:24,  حُتلن: 19:43

طوال سنوات دفن كلَّ همومِه وأفراحِه على صدرها وفي صدرها الذي لم يضِق يوما عن الاتساع رغم كثرة الهموم ونُدرة الأفراح في حياتهما وحياة ناسهما، إذ ما زالت جراح ضياع الوطن وأهله طريّة تدمي كلما مسّها ماسٌ، وما أكثرها.
اليوم أقسى كثيرا من يوم جاءها مهموما حاملا أو محمّلا واجبا في شقّ من قلبه، واجب يتدفّق يحثه على القيام به، ودونه في الشّق الثاني لقمة عيش أطفالهم الثلاثة تصدُّه عنه، ورمى على صدرها الهمّ ثقيلا وكأنها المطالبة حكما بإنقاذه ممّا اعتقد أن القدر وراء هذه الصراع بين شقّي القلب، متسائلا وقبل أن ينفض عنه غبار يومه الشاق:
كيف يصير حب الأوطانّ نقيضا أو متناقضا مع حبِّه لأولاده، أو هل من الممكن أصلا أن تكون مثل هكذا مواجهة أو هكذا تناقض، أم أنه هو من خلق ذلك ضعفا وتردّدا أو تبريرا لهما؟!
كان ذلك عشيّة يوم ذكرى النكبة ويوم أخبره أهله ممّن تبقوا من أهل البروة أنّ في الغداة الملتقى على عين البلد وهنالك يُوضع برنامج الإحياء، ويوم وضعها أمامه صاحب العمل "مقطوعة مفصولة" أن الغياب عن العمل في الغداة فيه لقمة عيش أبنائه.
يومها فاجأته إذ قالت بتصرّف واثقة:
- لا دخل للقدر في ذلك وهذا ليس مقدّرا ولا تناقض بين الأمرين ولا مواجهة بينهما، التناقض والمواجهة في نفسك !
- .......
- اعمل ما يريح ضميرك !
- كيف أعمل ؟
- اجعلها معركة وفي المعارك لا بدّ من الحسم للانتصار في الحرب!
هذه المخلوقة والتي لم تسعفه الأيام أن يجلس مرّة إليها يحكي في الكبيرة العامة من الأمور، فقد أكلت كل أوقاتهما هموم الدنيا الخاصّة في قلبيهما تجاه بعض وهي قليلة، وتجاه الأولاد والأهل وهي كثيرة، تقول كلاما كبيرا لم يعرفه يوما فيها أو عميت عيونه أو بصيرته أن يراه، وهي كثيرا أكبر ممّا اعتقد أو على الأصح تخيّل ودون بيّنة، وفقط لرأي مسبق منغرس في ذهنيّته رواسبيّا يطفو رغم ادعائه الدائم أنه من الذين يخوضون منتصرين حربا ضروسا على ذهنيّتهم ورواسبهم.
خاض المعركة التي اقترحت عليه وانتصر فيها، إذ غلب متّحدا ما رآه في لحظة معيّنة متناقضا، ولم يجيء انتصاره ثمرة إرادته وفقط وإنما وبالأساس لأن صاحبة هذا الصدر غير المتناهي العمق وفّرت له كلّ أسباب الانتصار، ورغم أن إكليل غار الانتصار زيّن جبينه ظاهرا، إنما أقرّ باطنا أن الإكليل هو من حقّها ولها، وربّما ذاتيّتِه فقط أو تقاليد عمياء أو خليط من الاثنين ما منعه من الخروج إلى الناس قائلا وبأعلى الصوت: لها الفضل الأول والأخير فيما أنا فيه !
لم تطلب هي ذلك يوما وظلّ صدرُها المدفنَ الذي لا قرار له، وحتى عندما ضاق وكاد يتمزّق وكثيرا ما كاد، وسّعته متحملة ألم التمزّق.
كثُر الأولاد وكبروا وعوّضوا عن لقمة عيشهم القلّت أحيانا ثمنا للنصر دافنين هم الأُخَر كلّ همومهم في صدرها دون حتّى أن يلمحوا الابيضاض الذي غزا رأس أمهم والاسوداد حول عينيها والانقباض حول فمها، دائما رأوا في شعرها تاجا وفي عينيها حنوّا وفي فمها قُبلا ألهتهم عمّا تغيّر، وهي التي قلّما شكت وإن تألمت كان ذلك في الليالي العزلاء.
الوحيد الذي على ما يبدو وعلى وقعِ زهو أو عمى الانتصار رأى الابيضاض والاسوداد والانقباض، هو من دفن كلّ همومه وأفراحه على صدرها وفي صدرها كلّ تلك السنوات، وقد ضاق أمامه صدرها لأفراحه الجديدة دون همومه ظنّا أو عمدا بعدما كان ذلك الصدر يتمزّق لإيجاد مكان لها بين الهموم المتكدّسة رغم أن الأمور انقلبت في معادلة الأفراح والهموم.
لم يعتد شيخ البلد زيارتهم إلا في مناسبات خاصّة ولقد كانت قليلة، وجيئته هكذا وفي غير موعد وبغياب رجل البيت مستأذنا الدخول والجلوس لحديث معها كانت مفاجِئة، خصوصا وأنها فقط صباحا تمنّت لزوجها سفرا موفّقا وعودة بسلامة.
لم يطّل جلوسه وفاتحها بالآية التي تنتهي ب" وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة". لم تسمع من كل ما قال بعد ذلك شيئا، فقد كان كلام الشيخ الكثير طنينا في أذنيها يصمّ ليس إلا، ودون أن يسمع منها حتى تعليقا غادر مودّعا إلى عتبة الباب بأفضل ممّا استقبل.
مرّة واحدة أحسّت أن كل مدفونات صدرها تتدافع في كلّ اتجاه متلاطمة دون رحمة تحت وقع عاصفة هبّت على غير ميعاد وتكاد تفجّر أحشاءه إربا أو فعلت.
ما الذي تستطيع عمله، وهي المؤمنة، في مواجهة من قرّر خفية أن يركب صدر الآية ومقرّرا أنه يستطيع أن يقوم بعجز الآية غير آبه بالمفعول به فيها ولا بأحاسيسه ولا حتّى أرادته، وكأن الأمر حقّ مفروغ منه يقوم مقابله واجب مفروغ منه، أو غير حاسب بما يمكن أن يقول له صاحب الآية يوما:
"أخذت من صفاتي ما لم تكن لتستحق، وما لم تكن تستأهله، فليس هذه الحالة التي تنازلت لك فيها عن جزء من صفاتي الوحدانيّة".
خطر في بالها هذا نافضة كلّ شاردة خطرت عن إيقاع الملامة على صاحب الآية مستغفرة، ومن خلال لملمة أحشاء صدرها وقد ضاق لأول مرّة اتخذت القرار العادل فعلا فالحقّ إن كان في الآية مفروغ فالواجب ليس مفروغا منه، وهذا وإن كان واجبا في حالات هو حقّ في أخرى، وفي سياقنا هو الحقّ ودونه كل الواجبات.
قرّرت أن تأخذ حقّها ورغم أنّ في ممارسة الحقّ عادة راحة ومواساة إلا أن في ممارسته أحيانا تعبّ ومقاساة، وأخذته من بين أكداس مقاساتها ولكنها لم تعلنه قبل أن لمّت الأولاد الذين راحوا يقبّلون، بعضهم دامعا والآخر باكيا، كلّ ناحية من جسدها بعد أن رأوا كبيرهم يركع متجها نحو قدميها وكاد يصل لولا أن كادت تقلع شعر رأسه بيديها الما- زالتا قويّتين.
قبل أن يغادروها وقد صدّقوا على القرار بتقبيل رأسها ويديها ظهرا وبطنا، قالت: أوصيكم به خيرا !
أوائل نيسان 2012
 

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net

مقالات متعلقة