الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 05 / مايو 16:02

بئر الخشب/ قصة بقلم النائب: سعيد نفاع

كل العرب
نُشر: 17/03/12 11:47,  حُتلن: 11:49

قصّة...قد تكون بعض تفاصيلها واقعيّة !
كان ل"خروبة" قلعة الشيخ الطالعة بين صخور شيّار جبل الجلّون، الروميّة على ذمّة أهل شَعَبْ، وكذا لوادي الشيخ وبئر الشيخ ووادي عْبيب ومغارة الجنّ، حصّة كبيرة في حرب ال-48، والذي أصرّ طه الذي فات الثمانين عمرا أن يلعن كل من يسميها أمامه حربا ناهرا إياه والسامعين: "هِيْ كانت حرب؟! كانت قطعان ذْيابْ مْسَمّنِة طبّت على نعاجْ مْخَوْرِة ورعْيانها وْلاد حرام!".
خروبة قلعة الشيخ المحاطة بأخواتها من سنديانات وملّات وبطمات، الضاربة جذورها في شيّار جبل الجلّون حارسة لوادي الخشب وبئر الخشب من عليائها، كانت مربضا ل"الحامية" قبل وبعد كل عمليّة، تأوي رجالها وحضنُها ستّار، وتقيتهم عند الحاجة من "شواهينها" البنيّة المنتفخة دسما وعسلا، أحيانا بال"قرط" وأخرى ب"الدّق" مخلوطة بحليب تدره عليهم ماعز في النواحي في غفلة من راعيها، علمتهم التجربة والحاجة فوائد "شواهين" الخروب مدقوقة مع الحليب عند "القلّة".
لكن في ذاك اليوم من أيام أواخر حزيران عام "الهجيج" كانت ظلال خروبة القلعة تشهد نقاشا حامي الوطيس بين الحُماة، خصوصا وأن ألمَهم على شهداء الأمس من الحامية في البروة، لم يبرد بعد، إذ كانت الحامية عادت مخلفّة وراءها ثلاثة رجال وقد أنهكتها "خيانة" كبيرة على حدّ قول العائدين، أثاره أحدهم لم يُعرف إن متحسّرا أو محتجّا:
- لعنة الله على عابد الضرير وحماره فضحنا... وراح ما يروح فيها كذلك الخوري...
قالها دون حاجة لتفسير، فحكاية عابد الضرير وحماره والخوري كانت وما زالت جزء من معركة البروة الثانية، يتندّر بها بألم أهل البروة وشَعَب حتّى اليوم.
- لا...الخوري خانّا ... ما كنّا لازم نرد عليه ...
- المخاتير غلطانين الخوري من أفضل الناس...اتّق ربّك وصلّي على النبي يا رجل...
- اللهم صلّ على رسولك...لكن لقاء "عين العياضيّة" مع اليهود وكلام المخاتير...
- الخوري استشهد ولاقوا جثته على باب الكنيسة ...
- لا...بيّن الحكي كذب ...
- أولاد الكلبة اللّي غدرونا...
- من اليهود أو جيش الإنقاذ؟
- لا... ضبّاط جيوش العرب. الشباب "الانقاذيين" مثلنا ولكن الضباط أولاد حرام...
- لا... قول الحكّام أولاد الحرام...
ظلّ "أبو أوصاف"، وكان الناس كنّوه كذلك رغم أنّ لا ولد له، لحسن أوصافه، فلم يكن متأهلا أصلا وإن كان وفاطمة يستأهلان، ظلّ صامتا وكأن لسانَ حاله يقول، رغم أن نقاش الشباب كان "لا يروي من عطش ولا يُشبع من جوع": "خلّيهم يفضّوا".
لكن النقاش بلغ حدّا وجب وضعُ حدّ له، وكانت قد اختلطت عليه الأمور ومثلما لم تختلط سابقا، أكثر من رجاله، وزادها هذا النقاش اختلاطا وألما، فأوقفه خوفا على روح الحامية، بإشارة من يده قائلا:
- كل واحد لموقعه والصباح رباح...
والصّباح عند "أبو أوصاف" هو أول الليل والرجال يفهمون ذلك، وعاد إلى صمته شاردا.
كان اليهود أخذوا البروة بعد ما أعادها وها أهلها يملأون وادي عْبيب ووادي الخشب وبئره وبعد أن أعادوهم بالدم... وكأنك في البئر جفّت... ولكن الأهم ضيّق وجود الناس خطاه... وهو الذي دأب وجماعته أن يلسع بنار كاوية والناس ترى أثر لسعاته دون أن تراه، لكن العيون غدت لا تُعد ولا تُحصى ولا شكّ أن بعضها زائغ ومثل "ش..صفيق" كثير من الصّفَقة، وعيون "سيجف" ابن الحرام عدوه اللدود، قبالتهم راكبة "التركيب" بعد أن سقطت ميعار، أكيد ترقب الوادي وإن كانت لا تظهر.
ما أخرجه عن صمته ال"طارش" الذي جاء مخبرا أن هدنة قد عُقدت وأعلنت ونافذة من الليلة، فلعن "أبو أوصاف" عاقديها ومعلنيها ومن ينفذها على مسمع من الرجال وقد همّوا شطر مواقعهم، وقبل أن يتنفسوا الصعداء لسماع الخبر وقد اشتاقوا إلى أهلهم...قائلا:
- لعنة الله عليهم أولاد الكلاب... حتى يعطوهم فرصة يلمّوا حالهم!
وبين سرّه وخالقه:
- ما زال في عمرك كم يوم يا سيجف...
كانت فاطمة تتسلّق "شمّيس" جبل الجلّون وال"زُكْرَة" الملأى بماء بئر الخشب على ظهرها وقد لفّت على وسطها صرّة كبيرة، والقمر بدر نوره يقبّل العرق المتفصّد من جبينها وخديها المحمرّين تحت حجابها المبتلّ الأطراف، تتلمسّ خطواتُها القصيرةُ الطريقَ آخذة الغَتِل منها "تتلطّى" بالظلال القمريّة، خوفا من عينٍ "بنت ملعونة" ترقبها، وخوفا من حجر يخون قدميها متدحرجا نحو الوادي العميق فيفضحها في هذا الليل الساكت، والفضيحة هنا مصيبة ويمكن أن تساوي دما كثيرا.
كان وادي الخشب هادئا إلا من حركة دواب مسوقة تتجه غربا مسرعة وغيرها يعود شرقا متثاقلا، وأصواتٍ هيّابة من الليل وبكاء أطفال غير هيّاب ربّما لم تعد أثداء أمهاتها تشبعها، أو اعتدت عليها "دباديب" الوادي، وهذا أطال دربَ فاطمة محمّلا إياها جهدا إضافيّا.
لم تعرف فاطمة لماذا تشعر أن اعتلاء ال"شمّيس" هذه المرّة متعب أكثر من العادة، ولماذا تتراءى لها خروبة جبل القلعة التي كانت تستقبلها عن بعد مصفقة، هادئة هي الأخرى أكثر على غير عادة، أو ربّما أن هدوءها حزن على نسيم الغرب الذي صار يجيء ساخنا يؤلم أوراقها. لم يُخرج فاطمة من دوامتها غير لقائها "طه" الموعود زمانا ومكانا معيدا السكينة إلى قلبها، فسلّمت ما على ظهرها وحول خصرها دون كلام اللهم إلا سلام وسؤال إن كان أبو أوصاف والحُماة بخير. وعادت من حيث أتت ومثلما أتت على أن تعود حسب الموعد الآتي، إلا إذا رأت "شَلّة" على الخروبة كما هو متفق.
صار بطن الوادي يستعيد بعض شكله ولونه كلّ صباح يطلع، وقد عجزت بئر الخشب التي كانت تمتليء ليلا وتفرغ نهارا، عن إعادة ملء بطنها وقد كانت حتّى فترة خلت تقرض الوادي من وفرة بطنها. وخفّت حركة الدواب غربا خصوصا وأن بعضها وأصحابَها ذهب ولم يعد ومنها حمار عابد الضرير. وشدّت الرحالَ كل صبح قوافل إلى الشمال، أطولها كان يوم أفاق أبو أوصاف وقبل طلوع ضوء أحد أيام أواسط تموز،على انفجارات وصفير وأزيز وعويل وصراخ وبكاء وبقاء حُصُر وأغطية مقطّعة معلقة على أغصان زيتون وادي الخشب وأشياء أخرى كثيرة تجوب بينها بعض حيوانات بيتيّة، بعد أن ضُرب حابل أهل شَعَب بنابل أهل الوادي ميممين كلّهم شمالا مودّعين بقذائف "سيجف" تتهاوى حولهم صاعقة معفّرة مسقطة الأحمال عن الرؤوس وظهور الدواب في كلّ اتجاه.
عاد لوادي الخشب شكله ولونه السابقان ولكنهما المدعوكان كثيرا... وربّما عادت بئر الخشب لتملأ بطنها وتقرض الوادي... و"مغارة الجن" في سفح وادي "عْبيب" خلت بعد أن أخلاها جنّها لإنسها، من إنسها.
بدأ الشباب والذين اعتادوا أن يناموا متباعدين كل اثنين معا عدا العيون منهم والتي بقيت تجوب النواحي، بدأوا الوفودَ إلى الخروبة، وما أن التمّوا وما زالت جفونهم تصارع نور الصبّاح، حتّى دكّ آذانهم صوت "أبو أوصاف" الهاديء الواثق:
- جاءت ساعتك يا "سيجف" لأجعل "التركيب" الذي ركبته، يرتوي من دمّك...
كانت التعليمات أن الغارة ستكون هذه الليلة... وبكلّ ما بقي من ذخيرة... وأنّ "سيجف" يجب أن يموت ولو بآخر رصاصة والذي يرميه يُحضر "نياشينه"... ما أحد يطلق قبل ما أطلق... الذي يخلص رصاصه يشمّل... والملتقى في رميش.
طال نهار الرجال مثل نهارات أيام كثيرة من أيام الأشهر القليلة الفائتة، والصمت وتقلّب أجساد الرجال تئن تحتها الأغصان كانا سيّداه وحفيف أوراق الخروبة وأخواتها الذي زاد هذا اليوم وقد كانت أغصانها تتضارب بعنف، أو هكذا خالها الرجال، ومن "التركيب" في القاطع المقابل كانت تعلو أصوات انتصار.
نزول "شمّيس" جبل الجلّون وصعود "ظليل" "تركيب ميعار" ولو كلّ على حدا ليسا بالأمر الهيّن، ولو لم يكونا مرتع الرجال في فتوتهم لصعب الأمر أو تعذّر، فكم بالحري النزول والصعود ليلا وقد اتّحدا والموت قابع وراء كلّ حجر، وصوت الليل يودّي. كان لمعان الجباه يشتدّ فتُفرك بالتراب، وكانت القلوب تدّق بقوّة وليس من فرط مجهود، وزاد هدوء عسكر موقع "التركيب" الجباهَ لمعانا والقلوبَ وجيبا وقد غدا على مرمى حجر، هدوء ربّما هو غفلة أو اطمئنان من خلو وادي الخشب من نُزلائه، ولكنه هدوء ضاجّ فيه خوف ورعب عرفهما الرجال كثيرا في الأشهر الأخيرة، لا يفكهما إلا الأزيز.
كبّرت بندقيّة "أبو أوصاف" وتلتها بنادق الرجال، وهلّل "التركيب" ورغم عدم حبّه للدم فقد غبّ ترابُه الكثير منه في ذلك الهزيع، ولم يترجل أبو أوصاف عن "التركيب" إلا بعد ترجّل رجاله وبعد أن رآه يغبّ من دم "سيجف"، وطه ينتزع "النياشين".
كانت بطن بئر الخشب في الطريق قد امتلأت وفاضت وقد حمّلت بعض مائها الرجال في طريقهم إلى الشمال، إلا طه فروته وغسلت جروحه وسلّمته وفاطمة التي ظلّت عند البئر إلى مصيرهما. وظلّت فاطمة سنين طويلة وما استطاعت إلى ذلك سبيلا من قرى اللجوء، ترِد بئر الخشب سيرا تملأ منها ال"زُكرة" إيّاها وقد كان لطعم مائها نكهة خاصّة لا يشاركها إياها إلا طه، وما زال "أوصاف" يرد البئر ب"الزُكرة" إيّاها كرمى لأمّه كلّما حنّت. وكانت قد أسمت وطه بكرهما: "أوصاف" وطهّراه طفلا من ماء بئر الخشب في طريق عودتهما من مأتم الخوري في البقيعة.
 

موقع العرب يفسح المجال امام المبدعين والموهوبين لطرح خواطرهم وقصائدهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع منبرا حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع على العنوان:alarab@alarab.net

مقالات متعلقة