الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 27 / أبريل 05:02

المسيح الثائر/ بقلم: سيادة المطران بطرس المعلم

كل العرب
نُشر: 13/01/12 12:25,  حُتلن: 13:36

سيادة المطران بطرس المعلم في مقاله:

في نظر يسوع أن تٌحِبّ العالم كله وتستثني شخصًا واحدًا فقط تكون قد سقطتَ من المحبة

هل عرفتم في تاريخ البشرية كلها مَن ناضل في سبيل قِيَم الإنسان الرفيعة مثل الثائر الأكبر ابن بلادنا يسوع الناصري؟

المحبة إما أن تكون شاملةً جامعةً أو لا تكون والآخَر أيًّا يكن عرقه أو جنسه أو معتقده أو انتماؤه الديني أو المذهبي أو السياسي أو الثقافي كلُ آخَر له الحق في محبتك الشاملة

الثورة التاريخية الكبرى الوحيدة التي اكتسحت الدنيا ولا تزال قائمة متجددة كل يوم والتي كلُ ثورة أخرى لا تنطلق من وحيها وروحها إنما هي عبثٌ انطلقت من عندنا وقائدها مُواطنٌ من عندنا اسمه يسوع الناصريّ

في الذكرى السنوية الأولى لانطلاقِ وتلاحُق الثورات العربية، لا يكاد يدور حديثٌ في أيّ لقاء إلا على تلك الثورات وتفاعلاتها. ويسألونك، كرجلِ دينٍ مسيحي ومطران: ما موقفك منها؟ هل أنت مؤيدٌ أم مناهضٌ للنظام؟ هل أنت مع الاستقرار أم مع التغيير؟ أمطمئنٌ أنت أم قَلِقٌ على مصير الأقليات المسيحية في الشرق؟؟؟ أسئلة لا حصر لها، وعلى غايةٍ من الأهمية، برغم أن في طريقة الطرح لبعضها من التبسيط ما يكاد يوحي بأن السائل لا يٌدرك ما في الموضوع من تعقيدٍ وتشابكات. - قد أعود يومًا إلى الإجابة على بعض تلك الأسئلة الهامة بشيء من التبسط الذي تستحقه، مما لا تتسع له الآن هذه العجالة. أما اليوم فاودّ لفت النظر إلى أن الثورة التاريخية الكبرى الوحيدة، التي اكتسحت الدنيا، ولا تزال قائمة متجددة كل يوم، والتي كلُ ثورة أخرى لا تنطلق من وحيها وروحها إنما هي عبثٌ وملهاةُ أطفال، تلك الثورة التي غيّرت وجه العالم، إنما انطلقت من عندنا، وقائدها مُواطنٌ من عندنا، اسمه يسوع الناصريّ. 


مساندة المرهقين والمظلومين؟
في أول يوم من رسالته العلنية، وقف ابن الناصرة في "مجمع" الناصرة (وهو القائم حتى اليوم على مدخل كنيسة البشارة للروم الملكيين الكاثوليك في السوق القديم من البلدة) وقال: "روح الرب عليّ لأنه مسحني لأبشر الفقراء، وأرسلني لأنادي للأسرى بالتخلية، وللعميان بالبصر، ولأطلق المرهقين أحرارًا...وكانت عيون جميع الذين في المجمع شاخصة إليه... وكان الجميع يشهدون له، ويتعجبون من أقوال النعمة الخارجة من فمه" (لوقا 4: 18-22). ذاك هو البرنامج. فهل من ثورةٍ خليقةٍ بهذا الاسم إلا ويجب أن تدعو الى الوقوف مع الفقير والمستضعف، وإلى إطلاق الأسرى والمعتقلين، ومساندة المرهقين والمظلومين؟ لا فلسفة وتنظيرات، ولا غيبيات تضيعك في عالم المجهول. ليس البرنامج للدعاية والاستهلاك الرخيص، بل هو للتحقيق بالعمل: "تعالوا إليّ يا جميع المرهقين، وأنا أريحكم" (متى 11: 28): الجائع يطعم، والمريض يشفى (الأبرص والأكمه، والأخرس والأصم، والمشلول والمقعد، والنازفة والحدباء...)، ومسكون الشياطين يبرأ، والمدنف يتعافى، والميت يقوم، والخاطئ يتوب، والمنبوذ والمهمش ومنكسر القلب يتعزى...

الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون
المستكبرون ومصّاصو دم المستضعَفين لم يُرْضِهم طبعًا نهجُ هذا الثائر، فكان لا بدّ من الصدام، وعلى مختلف الجبهات، المدنية والسياسية والدينية، المحلية والرومانية الاحتلالية المستعمِرة. فلهيرودس الذي يترصده ليوقع به يبعث برسالة واضحة: "إذهبوا وقولوا لهذا الثعلب..." (لوقا 13: 32). ولبيلاطس الوالي الروماني المهدِّد بسلطةِ القوة يقول: "ما كان لك عليّ من سلطان..." (يوحنا 19: 11). ولرئيس الكهنة الذي يستجوبه عن تعليمه يقول: "أنا ما قلتُ شيئًا في الخفية، فلماذا تسألني؟ سلِ الذين سمعوا...فإنهم يعرفون ما قلت" (يوحنا 18: 20-21). أما الفريسيون وعلماء الشريعة، المتمسكون بالظواهر والطقوس والتفاسير البالية، فأسمعَهم أقسى خطابٍ تجرأ أحد على إسماعهم مثله: "الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون وعلماء الشريعة..." (يكررها ثماني مرات في متى 23: 13-32).، وذلك لقسوة قلوبهم، ولأنهم نسوا أن "الحرف يقتل والروح هو الذي يحيي" (2 كورنثس 3: 6)، "وأن السبت جُعِل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت" (مرقس 2: 27).

طوبى لكم
ولم تكن تلك الثورة هَوَسًا في قلب الناصري، ولا اقتباسًا لمبادئَ من أرسطو وأفلاطون، أو حمورابي وبوذا، بل شعورًا ووعيًا حادَّا لديه بأنه هو حامل الإصلاح والتغيير الجذريّ للبشرية جمعاء. وكما صعد موسى الجبل قديمًا ليستنزل ألواح الشريعة منقوشة في الحجر، صعد الجبل هو أيضًا ليعلن منه شريعة التغيير الجديدة، محفورة في قلوب البشر: "فلما رأى الجموع، صعد في الجبل وجلس، فدنا إليه تلاميذه، ففتح فاه وجعل يعلّمهم قائلا: " طوبى للفقراء بالروح...طوبى للودعاء...طوبى للباكين...طوبى للجياع والعطاش إلى العدل...طوبى للرحماء...طوبى لأنقياء القلوب...طوبى لصانعي السلام...طوبى للمضطهَدين من أجل البِرّ...طوبى لكم إذا أهانوكم واضطهدوكم وافترَوا عليكم..."(متى 5: 1-20). أليست هذه التطويبات "أجمل ما نطق به لسان بشر" (المؤرخ الفرنسي الكبير دانيال روبس).

لا تقاوموا الشرير
ومن موقع الواثق بسلطانه يتكلم: "سمعتم أنه قيل للأولين: "لا تقتل". أما أنا فأقول لكم: مَن غضب ... من قال "يا معتوه" يستوجب جهنم النار". هل سمع ذلك سفّاحو هذا الزمان، صانعو ومشغلو آلات الموت والدمار؟ - "سمعتم أنه قبل: "لا تَزْنِ". أما أنا فأقول لكم إنّ مَن نظر إلى امرأة في شهوة فقد زنى بها في قلبه...". كثيرون أدانوا فعل الزنى، أما هو فيدين حتى النية فيه. فإن كان فِعلُ الشر شرًا، فالرغبة في فعله، وإنْ حبيسة القلب، فهي شرٌ كذلك. – "سمعتم أنه قيل: "العين بالعين والسن بالسن". أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير، بل من لطمك على خدك الأيمن، فقدِّم له الآخر أيضًا...". شريعة المعاملة بالمثل كانت قمة ما وصل إليه العدل والحكمة لدى البشر، بغية الحدّ من أعمال ثأر لا تنتهي، وانتقامات عشوائية فوضوية. ولكن يسوع قد رفض فكرة الثأر والانتقام من أساسها، ودعا إلى مقابلة الشر بالإحسان، ليحوّل الوحش القابع في أعماق الإنسان إلى حمَلٍ وديع. فالحقد والعنف لا يولّد إلا مثله، ,الإنسان وحده مدعوّ إلى تخطي الحيوانية فيه، وإلى التسامي حتى بطولة التسامح والغفران. – "سمعتم أنه قيل: "أحبِب قريبك وأبغِضْ عدوّك". أما أنا فأقول لكم: أحِبوا أعداءكم، بارِكوا لاعنيكم، أحسِنوا إلى من يبغضكم، صلّوا لأجل الذين يضطهدونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات...". في نظر يسوع، أن تٌحِبّ العالم كله وتستثني شخصًا واحدًا فقط، تكون قد سقطتَ من المحبة، فالمحبة إما أن تكون شاملةً جامعةً أو لا تكون، والآخَر، كلُ آخَر، أيًّا يكن عرقه أو جنسه، أو معتقده أو انتماؤه، الديني أو المذهبي، أو السياسي أو الثقافي...كلُ آخَر له الحق في محبتك الشاملة، وإلا فإنك تكون قد تخليتَ عن بنوّتك للآب الذي في السماوات.


شباب الثورات العربية
الشباب المناضلون في الثورات العربية، إن كانوا حقًا يتوقون إلى الحرية والعدالة والسلام وكرامة الإنسان في نفسه وفي بيته ووطنه، أوجّه إليهم السؤال: هل عرفتم في تاريخ البشرية كلها مَن ناضل في سبيل قِيَم الإنسان الرفيعة، مثل الثائر الأكبر، ابن بلادنا، يسوع الناصري؟

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.co.il

مقالات متعلقة