الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الإثنين 29 / أبريل 03:01

شدة وتزول.. من قصص موقع العرب

كل العرب
نُشر: 15/02/11 22:39,  حُتلن: 08:23

أعيشُ الآن في دارِ لأبناءِ الشهداءِ، في فلسطينَ المحتلَّةِ. في بدايةِ العامِ الدراسي الماضي، أوْصَلني والدي إلى بابِ المدرسة. قبَّلني كما لم يقبلني من قبل، ثم ضمَّني إلى صَدْرِهِ وهمَسَ في أذني بشفتين مُرْتَعِشتين: (يا أحمد.. أريدكَ أنْ تكون منَ الأوائلِ). نظرتُ إلى عينيه، فرأيتُ غيوماً داكنةً سوداءَ، يُبْرِقُ فيهما وميضٌ حادٌ، يضيءُ وجهَهُ الأسمرَ. عانقني ومضى.. ولمْ أرَه ثانية إلاَّ.. في الأحلام والخيالِ. قالتْ لي أمي بعدَ أيامٍ، عِبْرَ دموعها: (أنتَ ابن شهيدٍ يا أحمد). نظرتُ عبرَ النافذةِ فرأيتُ القمرَ بدراً تحيطُهُ غيومٌ داكنةٌ متفرِّقَةٌ: رأيتُ أبي يقفزُ من غيمة إلى أخرى.. وكأنَّهُ منهمكٌ في عملٍ مُهِم.. وكأنَّهُ كانَ في الحقلِ، يسقي شجرات بستاننا وهو يُدَنْدِنُ أغنيةً مرحةً. خُيِّلَ لي أنَّني ناديتُهُ حتى بُحَّ صوتي. لا أذكرُ كيفَ نمتُ في تلك الليلةِ.. إلاَّ أنَّني أذكرُ أنني استيقظتُ مع أذانِ الفجرِ لأتابعَ دروسي وأعملَ بوصيَّةِ والدي. وقد حصلتُ على أعلى الدرجاتِ في دروسي كلها، على الرغم من الظروفِ الصعبةِ التي عشناها، بعد رحيلِ والدي. فقدْ وقَعَتْ أمي بين أنيابِ المرضِ... وعانتْ طويلاً من آلامٍ قاسية. كنتُ أنظرُ إليها وأبكي وهي تضمُّ إلى صدرها شقيقتي رشا ـ ابنة السنوات الخمس. وكانتْ عندما تسمعُ بكائي، تناديني وتَضُمُّني إلى صدرها وتقول: (شدة وتزولُ إن شاء الله! شدَّةٌ وتزول!) فإذا اشتدَّ بكائي أنَّبَتْني بحنان وهي تقولُ: (أنت رجلُ البيتِ يا أحمد.. وتبكي؟؟). تصمُتُ بُرهةً وهي تداعبُ شعري ثم تقول: (البكاء لايطعم خبزاً يابني) وكان أملي كبيراً بشفائها.. فقد كان يزورني، كل ليلة في الحلمِ، رجلٌ طويلٌ بثيابٍ بيضاءَ ولحيةٍ طويلةٍ... يتوكأُ على عصا، في مرجٍ أخضرَ، تطيرُ فوقَ رأسِهِ حماماتٌ ملوَّنَةٌ، وتحومُ حولَهُ غزلانٌ جميلةٌ، تتقافَزُ بمرَحٍ ورشاقةٍ. أسيرُ معهُ بين الأشجارِ، في مرجٍ يطْفَحُ بالأزهارِ والرياحين. أسمعُهُ يقولُ لي: (أنت حزينٌ... حزينٌ يا أحمد) ويربتُ على كتفي يُطمئنني: (شدَّةٌ وتزولُ يا بني شدَّةٌ وتزولُ) وكنتُ أتابعُ دروسي بكلِّ ما أملكُ من قوة وأعيشُ مع أحلامي في الليلِ، وأتضرَّعُ إلى الله في صلاتي: يا ربِّ! اشفِ لي أمِّي.. يا ربِّ قفْ إلى جانبِ أمي وأنتَ أرحمُ الراحمين)..


صورة توضيحية

نادتني أمي ذاتَ يوم وقالتْ لي: (يا بني، لماذا لا تخرجُ وتلعبُ مع أترابك... أخرجْ يا بني إلى أصدقائك). قبّلتُ يديها وبكيتُ وأنا أقولُ: (يا أمي... الجنودُ الصهاينةُ منتشرون في كلِّ مكانٍ، يطاردون الأطفالَ من شارعٍ إلى شارعٍ، بالدبابات والسياراتِ المصفحةِ والقنابلِ المسيلةِ للدموعِ... والهراوات..) نظرتْ إليَّ طويلاً ثم قالتْ: (أنت ابن شهيد يا بني.. لا يليقُ بك الجلوسُ في المنزلِ، وأترابكَ يواجهون المحتلَّ بصدورهم.. وبالحجارة...).. ومنذُ تلك اللحظةِ لم أعدْ أجلسُ في المنزلِ إلاَّ بعدَ العشاء لأتابعَ دروسي. كنتُ أتركُ قلبي إلى جانبِ أمي المريضةِ وشقيقتي الهزيلة. ولم تكنْ أمي تَسْمَح لأحد أنْ ينشغلَ بها.. كي لا تكون عبْئاًً على أحدٍ. كنتُ أعود إلى المنزلِ فتستقبلني بشوقٍ.. أجلس إلى جانبها أتنَشَّقُ رائحتَها وأنا أحكي لها عن معاركِنا مع العدو الصهيوني... فأشعرُ أنَّها تصرَعُ المرضَ بابتساماتِ الدَّهْشَةِ والفرَحِ... ذاتَ يوم سألتني عن طموحي: (ماذا تحلم أن تكون في المستقبل يا أحمد؟ طبيب؟ محامي؟) فأجبتُها بنَزَقٍ: (ليش عمْ يتركونا نصير؟..) وأقصدُ أنَّ الصهيونية لا تتيحُ لنا أن نسيرَ إلى أحلامِنا بسلامٍ. فسألتني بغضبٍ: (ومن تقصد يا بني؟).. فأجبتُها بألم وحسرة: (الصهاينة الأشرار، وهل هناك غيرهم؟) عندئذ رمتني بنظرةٍ تشتعل بعتابٍ ولومٍ وتأنيبٍ: (يا أحمدُ تُؤخذُ الدنيا غلاباً) ومازالتْ هذه العبارةُ تومِضُ في روحي.. شعرتُ بعدَها أنَّني إلى جانبِ خالدِ بن الوليد. هذا القائدُ الذي قرأتُ عنه الكثير، فيما بعد... وفكرت به كثيراً... وأحببتُهُ حباً لا يوصف. وأظنُّ أن والدي كان يحدثني عن خالد بن الوليد كثيراً، حتى أنني سألت والدي ذات يوم: (لماذا لم تسمِني خالداً يا والدي...) وفهم والدي قصدي. ابتسم وقال: (الأسماء ليستْ كلَّ شيء... واسمكُ أحمد... أتعرفُ من هو أحمد؟) خجلتُ وتمنيتُ أن تنشقُّ الأرضَ لتبتلعني.. إلى حدٍّ أنني كدْتُ أبكي من الخجلِ.. ربتَ أبي على ظهري بقوة ليساعدني على الخروج من حرجي وخَجَلي وقال: (الرجالُ بزنودها وقلوبها... يا أحمد!). أيقظتني أمي من شرودي وشجَّعتني على الخروج، لألتحقَ بأترابي من الأطفالِ وأوصتني أنْ أكونَ معهم دائماً. قبَّلتُها وعانقتُها طويلاً ونظرتُ إلى شقيقتي بعينين تطفحانِ دمعاً. كانتْ غارقةً في نومٍ عميقٍ ترفُّ على محياها ابتسامةُ جذلى. كان بودّي أن أعانقّها... لكن أمِّي مَنَعَتني بإشارةٍ رقيقةٍ من يدها.. ومضيتُ وانضممت إلى أترابي وكأنَّني باشقٌ اشتعلُ حماسةً وشجاعةً وإقداماً. وقُبَيْلَ العشاءِ عدْتُ إلى المنزلِ، أحلِّقُ على أجنحةِ الأملِ لأحكي لأمِّي عن معاركنا.. من بعيدٍ رأيتُ منزلَنا وقدْ تحوَّلَ إلى ركامٍ. أخرجوا أمِّي وشقيقتي من بين الأنقاضِ. ولم يسمحوا لي بتوديعهما إلى مثواهما الأخير. ومنذ ذلك اليوم أعيشُ في هذا الملجأ، أتابع فيه دراستي، أستمدُّ قوتي من وصيةِ والدي وكلماتِ أمّي التي تلازمني في يقظتي ومنامي.

مقالات متعلقة