الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 19 / مايو 14:01

الدراسات المستقبلية ضرورة لنهضة مجتمعنا العربي-ابراهيم صرصور

العـرب وصحيفة كل
نُشر: 01/01/11 11:18,  حُتلن: 13:51

إلى جانب متخذ القرار في الحكومة البريطانية هناك جهاز يدرس يوميا ما لا يقل عن ثلاثين ألف وثيقة في مختلف الشؤون ، تلخصها مجموعة من الخبراء في ثلاثمائة صفحة

طريقة العمل لها نتيجة حتمية لتطور هائل حصل في أساليب الإدارة في الدول المتقدمة ، ابتداء من الحكومات وانتهاء بأصغر المؤسسات

إغلاق باب الاجتهاد يعني الأمة وتخليها عن فن ( الدراسات المستقبلية ) التي برعت فيه إلى درجة حسدتها عليه أمم الأرض وحضاراتها

في زيارة لنا سابقة إلى بريطانيا ، التقينا بأخ عزيز يرأس مركزا للدراسات الإستراتيجية في لندن ... كانت فرصة تحدثنا فيها عن حاجة الصحوة الإسلامية المعاصرة المستعجلة والملحة إلى أجهزة هدفها وضع الدراسات المستقبلية ، وتسخيرها في خدمة بناء الخطط والبرامج المختلفة على المدى القريب والمتوسط والبعيد ... حدثنا هذا الأخ الفاضل عن إطلاعه الشخصي على واحد من الأساليب التي يعتمدها متخذو القرار في بريطانيا على مستوى الحكومة ، ومثله يقال في كل مؤسسة يستدعي عملها اتخاذ قرارات إستراتيجية وبناء خطط مستقبلية لخدمة أهدافها ... قال أن هنالك إلى جانب متخذ القرار في الحكومة البريطانية جهاز يدرس يوميا ما لا يقل عن ثلاثين ألف وثيقة في مختلف الشؤون ، تلخصها مجموعة من الخبراء في ثلاثمائة صفحة ، تحال بعدها إلى مجموعة أخرى تلخصها في ثلاثين صفحة ، لتستقر في الناهية في يد مجموعة هي خلاصة المجموعات خبرة ودراية وكفاءة لتلخصها في ثلاث صفحات ، تقدم يوميا إلى رئيس الوزراء قبل أن يبدأ يومه ...

أمر مذهل ، أليس كذلك ؟؟!!.. لكن المسألة هذه لم تأت من فراغ ، فهي نتيجة حتمية لتطور هائل حصل في أساليب الإدارة في الدول المتقدمة ، ابتداء من الحكومات وانتهاء بأصغر المؤسسات ، وذلك على قاعدة المساءلة والتنافسية واللتين تعتبران المحرك لهذه الحيوية في تلك البلاد ، حيث لا نرى مثيلا لها في بلادنا إلا في حدود ضيقة ، لغياب المساءلة والتنافسية الحقيقة من فضائنا العربي والإسلامي ... ذكرني هذا – مع الفارق طبعا – بقصة يرويها التاريخ عن بعض من صفات الحاكم الأموي ( عبدالملك بن مروان ) ، تقول أنه وفي كل مرة كان يقف فيها على المنبر في كل أسبوع لإلقاء خطبة الجمعة ، كانت تصيبه حالة من الارتباك ... سؤل مرة عن ذلك ، فقال كلمة عجيبة وغريبة ، وهذا شانهم رغم دكتاتوريتهم وبطشهم ، قال لسائله : ( أوما تراني أعرض عقلي على الناس في كل جمعة ؟؟!!.. ) ... المسألة إذا فيها طرفان ، كل منهما له دور في المعادلة ... المسؤول من جهة مطالب بإثبات نفسه فكرا وإنجازا وبشكل دائم من خلال شعوره بعيون الرقباء وهي تلاحقه ، ثم الشعب الذي خوله الدستور بمراقبة المسؤول ومحاسبته ومعاقبته بالأدوات القانونية المعتمدة ... أحد الوسائل التي استعملتها المجتمعات المعاصرة من أجل تقديم أجود الخدمات وأجود البضائع على حد سواء ، الدراسات المستقبلية التي تستشرف مخزونات المستقبل ، وتستكشف إمكاناته قبل أن يحين موعدها وأوانها ، فتستعد لها بكل ما يلزم ، فتتحقق بذلك الفائدة في حدها الأقصى بأقل ما يمكن من الجهود والخسائر المادية والمعنوية ...

قد يظن البعض أن هذه المعاني قد غابت عن فضائنا الإسلامي ... هذا محض خطأ فاحش ، لا ينبغي لمسلم صادق أن يُسَلِّمَ به ، فقرآننا الكريم وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وموروث علمائنا الهائل ، ثم تجربة امتنا وممارساتها على مدى ألف عام تقريبا قبل أن تبدأ ( مرحلة الانحطاط ) ، فيها من الأدلة ما لا يخفى على لبيب ولا على أريب منصف من كل ملة ونحلة ، على أن امتنا مارست دراسة المستقبل واستشرافه والتخطيط المسبق لمفاجئاته السارة والمحزنة ، كجزء من حياتها ، وما كانت لتنجح في أن تبني حضارتها العالمية والإنسانية العظمى لولا رعاية الله تعالى ثم اعتمادها لأدوات الفعل القادرة على صناعة الحياة وصياغتها على أسس من نور الإسلام ... لعل في القول المشهور ( عش لدنياك كأنك تعيش أبدا ، وعش لآخرتك كأنك تموت غدا ) ، ما يلقي الضوء على هذا المعنى التي فجر إمكانات الأمة وجعل أحلامها وطموحها أبعد من الدنيا وما فيها ، مع الحرص الشديد على استثمار الدنيا وهي دار الممر بكل الطاقة المتوفرة ، على اعتبارها القنطرة التي يتوقف عليها مكان المؤمن في الجنة ... الدراسات المستقبلية لدى المسلمين جاءت لخدمة غاية كبرى من غايات الدين ، طورت بالضرورة فلسفة ذات وزن نوعي مميز حول الدنيا ، وضعت قيم الزهد والتقشف والإعراض عن الدنيا تحت ضوء جديد وإيجابي ... لعل ما يمكن أن يشير إلى هذا المعنى ، ما جاء في قصة رجل ذم الدنيا بحضرة احد الصالحين ، فقال له : ( أسكت ، فإن الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار غناء لمن تزود منها ، ودار عافية لمن فهم عنها . هي مسجد أبينا آدم ومهبط وحيه ، ومتجر أوليائه . فاكتسبوا منها الرحمة وادخروا منها الجنة . ) ... كلام ليس بحاجة إلى تعليق ، فهو أبلغ من كل تعليق ...

في المقابل ، يحدثنا التاريخ أن من ملامح مرحلة ( الانحطاط ) في تاريخ أمتنا ، إغلاق باب الاجتهاد ، ومعناه ببساطه ترك الأمة وتخليها عن فن ( الدراسات المستقبلية ) التي برعت فيه إلى درجة حسدتها عليه أمم الأرض وحضاراتها ... فإذا كانت الدراسات المستقبلية في عصرنا تعني من بين ما تعني استخلاص العبر من الماضي من خلال دراسة أهم التطورات وما ينتج عنها من تأثيرات ، وتصور وضع / أوضاع مستقبلية لعقدين أو ثلاثة لتحديد الأهداف والمصالح التفصيلية ، وتحديد القدرات اللازمة لإنجاز أي مسار مستقبلي بشريا وماديا ، والتركيز على عوامل التنمية في مختلف القطاعات لتحقيق الأهداف بشكل فعال واعتماد سيناريوهات مختلفة ومعدة سلفا لجميع الحالات الطارئة والمحتملة ، فلا يمكن إلا أن نعترف من غير تحيز أن تاريخنا الإسلامي مثل تطبيقا أمينا وصادقا لهذه التعريفات المعاصرة ، وعلى رأسها أن الله تعالى طالبنا بالتخطيط ليس فقط لعقدين أو ثلاثة ، ولكن للحياة كلها ، وجعل الإنجاز الدنيوي أداة الوصول إلى الغاية وهي الله والجنة ... لذلك ولذلك فقط ، جاء إنجاز الأمة رائعا فكرا وفقها وعلما وحضارة ومدنية ...
 

مقالات متعلقة