الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 19 / مايو 15:01

إيمان احمد حسين عبد الحليم:ذهب ولم يعد

كل العرب
نُشر: 19/10/10 14:56,  حُتلن: 14:46

هنا على هذه البقعة الصغيرة كانت تجلس جدتي، تضع الحصيرة المزينة برقع القماش والملونة بالأحمر والأخضروالأبيض والأسود، وكانت تحكي لنا الحكايات القديمة، ما أجملها وما أحلاها وما أروعها من أيام، كانت تتكلم والكل يصمت وتضحك والكل يضحك وأحيانًا كانت تبكي والكل يبكي وتبكي ونبكي... إنها كانت تكثر من البكاء وكانت تتألم وتضع أحزانها وآلامها وكانت تحمل همومًا كثيرة.
وفي إحدى الأيام حضر جدي صدفةً وكانت تبكي فقال لها جدي:"أما يكفي بكاءً يا أم صالح...". فأجابت جدتي:"ليتني أستطيع، ولكن هذا رغمًا عني". كانت تبكي رغمًا عنها وتتألم رغمًا عنها وكان ذلك بدون صوت وكانت كأنها تحمل هموم الدنيا وما فيها. أخذت تتحدث وتقول لنا ونحن صغارًا أتشاهدون هذه الدالية يا أحفادي لقد زرعتها منذ ستة وأربعون عامًا... وهذه التينة أيضًا زرعها جدكم منذ أكثر من سبعين عامًا... إن هذه التينة عمرها كما هو عمر ابني صالح... قالتها وتنهدت تنهيدة كبيرة، كانت تخرج من أعماق أعماقها... وأخذت الدموع تسيل والقلب يعتصر آلامًا وأحزانًا.
كانت تلبس الملابس السوداء ولم تتنازل عنها ولو للحظة واحدة، وفي إحدى الأيام وكان الطقس باردًا جدًا، جلسنا بجانب جدتي وكانت تصع أمامها بعض الأخشاب المشتعلة وكنا نتدفأ حول الموقدة المصنوعة من الطين والقش وما جمل تلك القعدة وكانت تضع لنا الشاي مع الميرامية ونشرب وهي حزينة ولكنها كانت تبتسم لنا رغمًا عنها وذلك كي لا تشعرنا ولكننا رغم كل ذلك كنا صغارًا، وكنا نشعر بها ونحس لآلامها ونحزن لأحزانها...
ويومها أخذت تقول لنا سأحكي لكم اليوم قصة أحزاني وآلامي... بعدما تزوجت من جدكم بسنتين أرزقني الله بولد جميل الوجه، عيونه خضراء وشعره أسود ووجهه واسع وأبيض يميل للاحمرار وكان من أجمل خلق الله...كبرنا وكبر معنا وكنت أحبه كثيرًا وجدكم كان يحبه أكثر وأكثر وكان هو الهواء الذي نتنفسه والماء الذي نشربه وكنا نعيش أحلى وأجمل أيام العمر... كان صالح يكبر كما تكبر التينة والزيتونة والدالية، وكنا من أسعد الناس على وجه الدنيا، وأصبح شابًا ابن ثمانية عشر عامًا.
وفي يوم من الأيام الصعبة القاسية الحزينة والمؤلمة، خرج صالح منذ الصباح الباكر ليرعى الأغنام والماعز وتأخر ولم يعد، وقلقنا عليه كثيرًا وكنا نقول لم يفت عليه الوقت وسيعود بعد لحظة، وذهبت اللحظات وذهبت الساعات وذهبت الأيام والسنوات وصالح لم يعد...
ذهب صالح ولم يعد ولم يرجع حتى هذه اللحظة وذلك منذ أكثر من سبعين عامًا وأنا أنتظرك يا ولدي، لماذا لم تعد؟... ولماذا لم تعد؟...
كانت الدموع تسيل من مقلتيها كالجمر ملتهبًا وتسيل على حطتها السوداء التي كانت تلتف حول عنقها وما أن انتهت جدتي من سرد القصة حتى أغمي عليها وكانت آخر كلماتها لماذا لم تعد يا صالح؟... لماذا لم تعد يا صالح؟... وفارقت الحياة رحمها الله...
وبعد موتها بسنتين أخذت الدالية التي زرعتها تذبل وتذبل حتى ماتت هي الأخرى فقيل أنها ماتت مقهورة... وبعدها بقليل التينة أخذت هي أبيضًا تذبل وتذبل حتى يبست جذوعها وماتت هي أيضًا ماتت مقهورة... وقيل أيضًا أن هذا الزمن هو زمن القهر.

ملاحظة : إن هذه القصة واقعية وحقيقية حصلت مع ابن عم الوالد وهو : صالح سعود عبد الحليم. نتمنى من الله أن تصل له هذه القصة ويقرأها بنفسه أو أولاده إن كان له أولاد ونتمنى له العودة لأننا متشوقون له كثيرًا.

مقالات متعلقة