الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأربعاء 01 / مايو 00:02

خاطرة عازف منفرد- بقلم: رافي مصالحة

كل العرب
نُشر: 04/05/10 12:04,  حُتلن: 15:21

كم أخاف عليك يا ليلاي.
*****
في هذه اللحظة يا ليلى, اخطّ خواطري قسراً, أصارعها وهي تتفلت مني تبغي الهرب من ثنايا العقل الى لجّة النسيان, وحول مصباحيّ الشاحب, تحوم فراشة حيرى, لا اظنها تقصد هدفا, تسامرني وحيدة بعد ان نام الكون, الا ذلك الوسواس الذي يتقلب في رحم ذهني وكانه داهمه المخاض فلا يترك لجفني لحظة إغفاء فأصبح أسيرا للارق, أكتب دون توقف ما تمليه شياطيني. اتراه الالهام ؟. ام هل أخجل ان أسمي الاشياء بأسمائها وادعو بالالهام ما هو جنون. لا شك ان على الذي ينتظر الفينيق ان ينهض من الرّماد ان يحدّق بنفسه فى المرآة, وان يضحك, فهو حتما مجنون.
*****
الزقاق معتم يا ليلى, والخطر يتربص وراء كل جدار, خلف اوعية القمامه وفي عيون القطط الضالّة وفي أنفاس الريح التي تهمس في جلباب الظلمة الحالكة واشِيةً للارواح المنبعثة خفيةً من مراقدها سرّ الوجود, والخوف قابعٌ وراء كلّ نافذة تطرقها قطرات المطر بإصرار, لكن عبثا, فلا مجيب, فالرعب تحصّن في المنازل التي يغيظك صمتها, وصار سيد الموقف في ليلة داكنة المعالم تفيض فيها التعاسة الى اقصى الحدود.
*****
لا تجزعي يا ليلى, فمن مثلي يعي همّك وحزنك وبثّك. أي حسناء مكانك كانت ستقطع اوردة معصميها, او تبتلع جرعة من السيانيد أو حتى ترمي بنفسها من اعلى المنارة الى البحر, فهل ستجدين يا عزيزتي ميتة اكثر شاعرية من هذه ؟!. ليلى: اعرف جيدا يا غاليتي انك احترت بين معتوه يدعى "ابن الملوّح" يحرق يديه بالنار ويتسكع بين البوادي وينظم فيك الشعر وهو مستلق عند جبل التوباذ بدل ان يبحث عن مهنة يعتاش منها, او حتى ان يتكلف عناء التواجد في مكتب العاطلين عن العمل, وبين ذئب يمتهن الخديعة, في عينيه خبث سماسرة العقارات يعترض طريقك عند مدخل الغابة, ليرشدك (زوراً وبهتاناً !!) الى الطريق القصيرة نحو بيت الجدّة طمعاً في حبّات الكرز التي تزيّن كعكتك الرائعه. إنعدم الامن يا جميلتي فحتى في قطار الانفاق سيبرز لك ذئب من نوع آخر يسيل لعابه كي يغزو عفتك المستورة تحت ردائك الاحمر.
*****
ترى, هل عرفت يا ليلى مدى الجنون في عقلانيتي, ومدى الحماقة الكامنة في اتزاني المشبوه ؟ هل تسنى لك ان تغوصي في اعماقي لتستكشفي منابع العاطفة الملعونة بلعنة الوجع المتأجج بلهيب الشاعريّة المفرطه. انا لا اتقن الشعر. ولكن علمتني عاطفتي المحمومة في مدح الموت قصيدة عشقٍ عاموديه لن تعجب أبا فراس الحمدانيّ ابدا. أنا يا صغيرتي البريئه إمبراطور ذاتي، مملكتي المترامية من سواحل العتمه الى جزر االلا شعور, حيث المكان غير موجود ولا الزمان محسوس، حدودها الكوابيس, والحزن, والخوف, واللهفة الطاعنة بالحرمان، قمرها صمت صارخ وفاضح يتسلل كاللص بين الغيوم في أوج رحلة حجّها اللامنتهيه, وشمسها طفولة نبيلة وشرسة يعلوها وحل الطرقات.
*****
صرت سيد كوابيسي وأحزاني، وصار الخوف في لغتي نقمة على الفساد والبؤس الإنساني بكل صوره ومعانيه وأشكاله. إندفعت بيراعي المخنوق بين اصابعي بتلقائية عجيبه, دون ان أقرر, وبلا وعي, وبآلية تامه ممعنا سوطي بالفساد بأقسى الضربات, دون رأفةٍ ولا رحمه, فلغتي المشتعلة دائماً تكاد تمسك بقارئيها، تلسعهم بكلماتها كألسنة النيران، ترجّهُم بقوةٍ، فيقفون أمام ذاتهم، حانقين, ناقمين, ناقدين، باكين، ضاحكين، او مسكونين بالقلق والأسئلة.
*****
لقد أعلنتها يا ليلى - ايها الناس: لن اخجل ان اقف على المسرح عازفاً منفرداً اترنح وحدي طربا لألحاني الهزيله، أوطائراً هائما خارج السرب يحلق نحو حلمه الفضيّ المتلالئ في الجرح الدامي لشمس غائرة في محيط الظّلمه، لن استعير لغتي من أحد، ولن آبه إلا بنفسي في انتمائي وعشقي للاقحوان ونصف البدر وبسمات الاطفال ورائحة التراب بعد الزخّة الاولى. ترى, هل احدٌ يجرؤ يردعني في اختراق حصار الخوف وأعين الرقباء، عندما أنحاز إلى الحرية والجمال والعدل ؟. انا يا قوم لي طقوسي النّادرة في حب الوطن ورسم صور عشقي له, وهي مغايرة للمألوف في ما درجت عليه العادة, شاذة عما عهدته العامة, غريبةٌ حتى على مفاهيمكم الآيلة للتهافت.
*****
لم يكن الفرح يوما مهنتي، وفي بيتي الذي لطالما تخيلته بلا جدرانٍ قد تحبس (لا قدر الله) مخيّلاتي الجامحه, أمسيت بارعا في اقتناص وَمَضَاتِ السّعادة والإحتفاظ بها زمناً طويلاً في خليّة التّجميد داخل ثلاجتي، انها سعادةُ الحالمِ المستولدةُ من رحم القهر والسجن والخيبة والتشرد وغدر الأصدقاء ورحيل الأحبّة, تتحول المرارة فيها إلى سخرية تارة, وحكمة تارة اخرى, سعادة مصطنعة تنير بإضاءات أطل من خلالها على مكنونات نفسي الغامضة وحريق روحي أحياناً كثيرة, أحزن حتى آخر دمعه, فأنا عاشق إلى ارقى حدود الشراسة، باحث عن حرية لا تهددها جيوش الغبار.
*****

أعطني من فضلك ليلاي مكبر الصوت, واسمحي أن أتّكأ عليك رأفةً بظهري المقصوم, فسوف اقف خطيبا - ايها الناس: كل شيء فيكم قطعة مني, تلازمني لحظة بلحظه, خطوة بخطوه, كل بائع متجول وفلاح وكل قابض على مكنسته وعجوز وعاطل عن العمل ومتسول وقاطع طريق وبائعةٍ لباقات البقدونس وامرأة يهمها غلاء سعر الدجاج أكثر (ولو بقليل !) من انبعاث تيار السريالية في الفن العصريّ, وكلّ رصيف ودكان وجامع وكنيسة وحديقة عامة ومقهىً ، كل اللذين يحبون فِيَّ بساطتي وكل اللذين ينظرون باستعلاء إلى سوقيّتي ومظهري الريفيّ البائس. إنّكم لا تزالون تقاسمونني أنفاسي وخواطري وأحلامي, أرى ملامحكم في ورقتي, وصوركم عالقةً في كأس شرابي ولفافة تبغي ومصباحي الذي أنهكه السّهر. عشقي لكم يمنحني الجرأة حتى أن أخدع ألهة الاوليمبوس (تصوروا !!) وأسرق (كما فعل البطل الفدائي برومثيوس) سر النار من الالهة وأعلمه لكم كي تشعلوا النار (لا بأنفسكم !) ولو كان الثمن أن أحتمل ربطي بين جبلين كي ياتي الرخّ العملاق ليأكل كبدي, فاذا جاء الليل نبت لي كبد جديد حتى يجيء هرقل ويخلّصني من هذا العذاب القاتل وينفض الغبار عن سذاجتي وكذلك عن اسطبلات اورخياس العتيقه.
أعلم أعلم يا ساحرتي... أنا خطيب سيّء, لا يرتقي لعظمة خطابة انطونيوس إذ وقف يرثي رفيق سلاحه يوليوس قيصر وهو يصرخ متهكّما ساخرا متوجّعا: "كان القيصر صديقي الوفيّ, ولكن بروتوس رجل شرف وشهامه !!". هكذا يقال في ايامنا ايضا يا حمامتي الوادعه في مدح الخائنين: رجال شرف وشهامه.
*****.
بدأ صوت قيثارتي يخبو. ذهب العزف الى العدم. صارت خيالاتي المتأرجحة بين قسمات وجه ليلى وصيحات الباعة المتجوّلين وأساطير الإغريق وأشعار اللورد بايرون الفياضة بالرومانسيّه, برغم عرجه المثير للشفقه, مزيجاً صاخباً يُحدث في رأسي جلبةً لا أحتملها. وهذا النعاس المفاجئ بعد هذه الوخزة في ظهري قد يبدو مفرّاً من كوابيسي المتشابكه. إنها حقنة المسكّن المسائيّة اليومية. الآن أنعم براحةِ حقيقيّه, في جنّتي الواقعه في القسم المغلق من مستشفى الأمراض العقليّه.
 

مقالات متعلقة