الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الثلاثاء 07 / مايو 04:01

"باب الحارة" وتعرية النقد


نُشر: 30/10/07 13:41

اعترف انني لم اوفق في سبر غورِ  ما رمى اليه الاستاذ نبيه القاسم في قوله  "تعرية الذات"  في نقده للعمل التلفزيوني السوري "باب الحاره" ,  كما لم افهم موقفه غير المبرر من تراث المجتمع العربي في بلاد الشام ! هذا ولم ادر كيف تصنف مقالته هذه المنشوره في كل العرب الاسبوع الماضي  , اهي نقد ادبي يحتكم الى النقد الادبي ام هي مجرد "نظره شخصيه" لا علاقة لها بالمهنيه الادبيه.  ان استخفاف الناقد باهل بيته واعتبارهم " مشروع حياته الذي قد فشل" , لانهم شاهدوا "باب الحاره"  وعتبه على "المثقفين" من زملائه وكأنهم "سقطوا من عينيه" للسبب ذاته , انما يدلل على فوقية واستعلاء من غير سند . اما تهليله لكل ما هو حديث على حساب  قيم الماضي ,  واستحضاره حزام ابيه وقضيب زعرور مديره وسقف بيته الذي يمطر على راسه الفئران والثعابين , ثم سؤاله النساء: ماذا يحببن بهذا المسلسل ما دام  يحتقرهن ويمعن في اهانة النساء , انما بيرهن بيقين التواتر مزاجية التوجه  .  الا ترى ان مثل هذا التوجه ينسف تماما اعمال كبار الأدباء من عرب واجانب ممن جعلوا محور اعمالهم شرائح اجتماعيه وأنماطاً تحكي واقعاً ولي او حاضرا لا زال ؟!.
صحيح ان موسم " الحصيده" كان مضنياً لأهله , ولكنه كان اطاراً خصباً لحضارة كامله , , من " فزعة المعونه"  وتراث البيدر والروزنا وما بني عليه من فلكلور . لقد تغنى بهذا الموسم الشعراء والقاصون وعشاق الحب العذري . اما اليوم فالكومباين يحصد عشرين دونما في نصف ساعة  , مع ذلك فلم نرَ احداً يتغنى بالكومباين او يكتب قصيده عن التراكتور . وهكذا موسم جمع الزيتون وموسم القز والتفاح . ومع انك اليوم تجد الماء في صنبور المياه في كل بيت , بينما كانت النساء في الماضي تملأن الجرار من البئر او العين , حتى دارت حول  " مشوار الملاية "  " ولقاء العين " "وشربة الميه" لعابر سبيل, حضارة كامله من الاشعار والاغاني والقصص, فإنك لا تجد قصة واحده تتغنى بالحنفيه او بالميكرويف , او بالروموت كونترول.
 ان " باب الحارة " لم يمتدح حزام ابي احَد , ولا الفأر الذي سقط من السقف على رأس احد , بل امتدح الشهامة والحياء والكبرياء وعزة النفس والوفاء والوحده . ان كتابة  "البيئه" تستدعي ملكات خاصه , حيث ينبغي ان يكون صاحبها قادراً على حصر الزمان ووصف المكان على تفاصيلها الدقيقه , وقد نجح "باب الحاره" في ان يُدخل المشاهد حياة المجتمع العربي الشامي – وفي الشاغور على وجه الخصوص , في اوائل القرن الماضي  , حتى عاش المشاهد ازقة الحاره وعرف بيوتها ودكاكينها وناسها , كل بلباسه وشخصه. ومع ان العمل ضعيف وبسيط  فناً وإخراجاً , فقد كان ديكور الحاره , وزي الشخصيات متقناً , وكذلك العناصر المصاحبه كجرن الكبه والمعمول والصفيحه وشيخ المحشي , إضافة الى الجلسات النسويه والبيت الدمشقي الجميل .
والحقيقه ان "الحاره" ببنيتها هذه لم تكن إختراعاً لهذا الكاتب بل سبقه اليها نجيب محفوظ , حيث كانت  "الحاره" محور اعمال الكاتب الكبير لتصبح ملخصاً لمجتمع بحاله , فهي وحدة اساسيه لها مؤسسات كالتكيه والمقهى والخماره , وفيها طبقات اجتماعيه متمايزه : التجار – وهم طبقة الاغنياء الذين يدفعون الأتاوه للفتوات وهم الذين شكلوا السلطه الحاكمه , والحرافيش – وهم المواطنون البسطاء الذين لا يهمهم سوى لقمة العيش , وهم غالباً ما يشكلون ضحية للنهب والظلم من الفتوٌات . وقد استمد نجيب محفوظ نموذج " حارته" من حي الجماليه وأخذ نموذج المقهى من مقاهي الفيشاوي وزقاق المدق , حتى قال :" ولكن عالمي الأثير هو الحاره , واصبحت الحارة خلفيه لمعظم أعمالي حتى اعيش في المنطقه التي احبها".
أما "الفتوه" فهو بطل تناوله الاديب الكبير في كثير من اعماله , "كملحمه الحرافيش" , " اولاد حارتنا" , "دنيا الله" ,"حكايات حارتنا" و " الثلاثيه". وإن انت قارنت بين "باب الحاره" وبين روائع نجيب محفوظ , فإنك ترى ان كليهما يتحدث عن حارة العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي :  النساء , ينظرن بتحفظ وخجل ويتعاملن باحترام بالغ مع الزوج , الباعة المتجولون في الشارع , "الفتوه "وحوله يجلس اتباعه. وكما ان نمو سلطة الفتوه قد جاء نتيجة لغياب دور الشرطه في الحالين،  وهي التي توغل بضعفها صدور بعض الفتوه على اخرين ليقع صدام بينهم فتتخلص من هذا الفتوه او ذاك .  ومع الشبه الكبير بين الاثنين ,  فإنني لم ارَ احداً يعيب على نجيب محفوظ وصفه للفتوه عاشور الناجي الذي ارسى العدل بين الناس ،  بينما يؤخذ على "باب الحاره " وصفه  " للرجوله الفارغه " , كما لم يعتب احد على نجيب محفوظ لأنه قدم شخصية "أمينه " المحافظه, المحترمه لزوجها في "الثلاثيه" ليسأل نساء الأرض : لماذا لا تكرهن نجيب محفوظ او لماذا تحببن " بين القصرين "؟!
ان "باب الحاره" عمل درامي قِيَمي يعرض قيم المجتمع العربي في بداية القرن الماضي , ومع ان للمجتمع الدمشقي خصوصيته ببيوته و صُناعه ولهجته , الا أن هذه الحاره  تمثل بصدق كل حارة في اية مدينه عربيه , كصنعاء او بغداد او القدس او فاس او حلب او القاهره ; حلاق وخباز وحداد ودايه وتاجر وحكيم – وحدة سكنيه متكامله وصراعات على النفوذ بين الحارات وزعمائها المحليين , في غياب السلطه . ومع انني لم اشاهد معظم حلقات هذا المسلسل , فانني استطيع ان اقول إنه قدم مجتمعاً قِيَماً شاملاً للعناصر الآتيه:
1- التكافل الاجتماعي: لقد كان مجلس العضوات بمثابة وزارة للشؤون الإجتماعيه , فقد أقام صندوقاً لمساندة الفقراء والمعوزين, وقدم تعويضاً لتاجر افلس او سُرق ماله. كما قام اعضاؤه بالإصلاح بين الناس وعيادة المرضى .
2- التعاون : لقد كانت الحارة مجتمعاً متكاملاً مكتفياً بذاته . فيها مقومات المجتمع الضروريه من اصحاب الحرف , اضافة الى العلاقه الوديه التلقائيه التي تربط الناس ببعضهم ليتعاونوا في السراء والضراء . إن ما يحكم علاقتهم البساطه والتلقائيه والإحترام المتبادل.
3- الشورى: لقد عمل العضوات كمجلس شورى يبحث كل حدث ويتخذ القرارات بعد التشاور وتبادل الآراء , وهذه قيمه إسلاميه بالمكان الأول  " وأمرهم شورى بينهم" . "وشاورهم بالأمر" , وكذلك فهي قيمه ديموقراطيه اساس.
4- احترام الكبير والوالدين: لقد تجلت هذه القيمه بأسمى معانيها في هذا العمل , وهي أمر قرآني كريم : " ولا تقل لهما افٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً". كما ان احترام الكبير قيمه محموده هي الاخرى وقد حافظ عليه هذا العمل.
5- الشهامه : هذه قيمه لا تجد من لا يحبها ولا يجوز ان تنعت "بالمرجله الفارغه" !  بها يتسم من يدافع عن الحق لو كلفه ذلك حياته . إن الرجل الشهم هو الذي لا يرضى بالظلم ولا يقبل العيب , وهو الذي تسميه العامه " الزكورت" و الزكورت لا يعتدي على احد ولا يرتكب الرذيله أبداً , وبذلك فهو لا يشبه بعض فتوة نجيب محفوظ الذين كانوا يجبون الأتاوه من التجار ويلاحقون الحرافيش - مع أن كلا منهم على حق من وجهة نظره , وبهذا فقد اتسم " معتز" وكذلك " العقيد " بالشهامه والرجوله .
6- التسامح: وهي قيمه راقيه دعا اليها القرآن الكريم في الكثير من الآيات الكريمه كما عفا النبي العربي (ص) عن الذين اساءوا للمسلمين – خاصة يوم فتح مكه . لقد مثل التسامح  "ابو عصام" الذي عفا عن "ابو غالب" بل تبرع بعلاجه وعالج والد ابي النار ,  وكذلك سامح لطفية ووالدتها رغم ما فعلته به هذه الأخيره بإذاعة سره.
7- إدخال: " ابو طوني " في السرد , كرجل من قادة المقاومه, هو امر محمود يراد منه ابراز دور المسيحيين العرب في السياق التاريخي للنضال القومي العربي في بلاد الشام.
8- الرجوع عن الخطأ فضيله : وهي قيمه اخرى اتسم بها ابو النار يوم علم الحقيقه , وكذلك ابو غالب الذي مثل شخصية النذل الساقط , بعد ان قابل ابو عصام سيئته بالحسنى , فتاب وأصلح , وفقاً لقوله تعالى :" ولا تستوي الحسنة ولا السيئه , إدفع بالتي هي احسن ,فإذا الذي بينك وبينه عداوه كأنه ولي حميم".صدق الله العظيم.  لذا فلا عجب اذا احب الناس مجتمعاً مؤمناً بهذه القيم واحبوا ان يكرهوا النذل كأبي غالب وأبي بدر.
 أما بالنسبة للشخصيات فقد احبها الناس لأنها تمثل انماطاً يحلم بها الناس ويتمنون أن تكون بينهم.
1- العقيد : شخصيه قياديه - توحي بالقوه والقدره , رجل شهم يحب اهله , شجاع يترك مصالحه لصالح العمل الوطني المقاوم. قادر على حل اية مشكله ,  حتى لو لزم الامر تهديد قائد الشرطه بنفسه إذا كان هذا فاسداً ظالماً في قراراته. . وإني لأسأل اي منا ليس على استعداد لأن يستبدل رئيس بلديته بعقيد كهذا؟!
2- الحكيم المتمرس الطيب : قادر على معالجة اي مرض , كريم متصدق على المحتاجين, خلوق في تعامله مع اهله وجيرانه حتى لو اساؤا اليه, مثله ايضاً الخباز ابو بشير .
3- مصير الخائن : لا يفر الخائن من مصيره المحتوم , هكذا اقسم العقيد , يوم اغتيل الزعيم , ومهما فر "صطيف" , فلا بد أن يلقى عقابه . مثله ابو غالب , الذي كان قد وشى عن المقاوم -  والد سعاد الذي فر من السلطات فدلهم هذا طوعاً على مخبئه , فعاقبه الله بموت زوجته وولده ثم بمرض الجرب وأمضى حياته نذلاً مهاناً .
4- الشريره: فريال التي تمثل الحماة اللعينه, التي اعماها حقدها عن مصلحة ابنتها فقضت على مستقبلها .
5- رجل الدين: رجل سمح , خلوق, طيب, يصلح بين الناس ويسعى بينهم بالخير , يؤمهم في المسجد ويفتيهم بهلال رمضان ولا يرفع صوته مهما حصل.
هذا وغني عن القول إن اساس سخرية "الناقد" في هذا العمل هو سهولة طلاق الزوج زوجته , وهو امر مردود عليه جملة وتفصيلا, من الناحيتين الشرعيه-الاسلاميه , والاجتماعيه – العربيه على حد سواء . لأن الطلاق أبغض الحلال الى الله , وقد ظهر ذلك بشكل واضح بل مبالغ فيه على لسان شيخ الحاره تكراراً , ثم من خلال تراكم الاحداث المترتبه على حادثة الطلاق . ألا يكفي ان الكاتب قد جعل طلاق سعاد فضيحه لا تغتفر , بل وبنى عليها كافة احداث القصه حتى صار ابو عصام وبيته كالبعير الأجرب؟! كما ان موقفه يوم بات في دكانه انما هو طاعة لله في الحفاظ على حدوده وإكراماً لمطلقته التي لم يشأ أن تخرج من بيتها ,بل  اختار أن يخرج هو منه , وهو موقف لا شك مشرف.
لذلك كله أحب الناس "باب الحاره" وخفقت قلوبهم بالحنين الى المجتمع العربي الاصيل الذي يتحلل من كل زيف ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
مع ذلك فإنني لا أتغاضى عن ضعف الإخراج في بناء الحبكه وعن معاناة العمل  من الاسفاف وقلة الاحداث وبطء انسيابها من غير مبرر. كما انه يعتمد الى البساطه والزهد في التكاليف . يضاف الى ذلك أن هناك ملاحظات لا بدّ من الاشارة إليها بالنقد , وهي أن المخرج قد اركب رجلا زوجته على ظهره ليدخل بها البيت بعد ان حلف عليها ! وأدلل هنا،  انني لم ارَ تلك الحلقه بل قيل لي , إلا ان احداً لم يستطع ان يحدد نص ما جرى ليبني عليه حكم شرعي . ولما كان من شروط الفتوى أن تكون وفقاً للنص, فإننا لا نستطيع تحديد الحكم الشرعي على وجه الدقه. ولكننا نقول بوجه عام , إن ما ذهب اليه المخرج مدعاة للسخريه, ذلك ان الطلاق المعلق قد يكون يعلق على امر المستقبل مع وجود المعلق عليه  كأن يقول الرجل لزوجته:  "إن دخلتِ البيت فأنتِ طالق"  او" إن كلمتِ الرجل الفلاني فأنتِ طالق" . قال الأئمه الاربعه في ذلك , يقع الطلاق اذا وجد ما علق عليه سواء كان التعليق للحث على فعل شيء او تركه او اذا كان يقصد به حصول الجزاء عند حصول الشرط . اما ابن تيميه وتلميذه ابن القيم فقد رأيا أن التعليق أن كان على وجه اليمين لا يقع فيه الطلاق , حتى لو وجد المعلق عليه ويبقى على صاحبه كفارة اليمين اذا حنث بها ,( وقال ابن القيم لا كفاره عليه), ووافق كلاهما سائر الفقهاء في وقوع الطلاق اذا كان التعليق شَرْطياً .
اما ما تبادر من صورة ركوب الزوجه ظهر زوجها لادخالها الدار ,  أنه ما كان  إلا ليفي الرجل بيمين قد حلفها عليها بألا تدوس عتبة بيته , او شيء كهذا... وإن كان الامر كذلك , فإننا نقول انه لا بد من اعتبار النيات والمقاصد في الالفاظ  لان العبره للمقاصد والمعاني , لا للالفاظ والمباني , والقصد في تخطي العتبه هو "الدخول".  ألا ترى انه اذا حلف احد ان  " لا يضع قدمه في البيت" فدخله راكباً فقد حنث بيمينه , لان دلالة وضع القدم او تخطي العتبه هو الدخول في عرف الناس . أما اذا حدد بيمينه ألا يدخلها ماشياً, فذاك شأن آخر.
وملاحظه أخرى; لا ادري كيف "ارجع" عصام مطلقته, او انه قد فعل ام لا, ولكن, الحكم الشرعي أن الطلاق إن كان رجعياً يصير بائناً بعد انقضاء العده . وطالما لم يرجعها في مدة العدة الشرعيه , فإنه لا يكون الجمع بينهما إلا بعقد ومهر جديدين.
ثم لم يدافع المخرج عن بطله  "العقيد" بل جعله يتصرف عند عودته مع " ابو عصام " تصرف الصغار ونسي انه الكبير الذي يجب ان يبقى رابط الجأش مترفعاً عن نفسه.
وفي النهاية , فإنني أعترف بأنني احببت "باب الحاره" لأنني أفضل ثقافة الشهامه والأصاله "ومسك الخاطر" والتعاون ونبذ النذاله والرذيلة, على ثقافة المكدونالدز والجينز والعولمه. كما افضل تراث الزفّه والعتابا والميجانا على ثقافة الراب, وكذلك البيت الدمشقي على شقق "عمارة يعقوبيان". وليهنأ كل بما يحب ويهوى..! 

مقالات متعلقة

14º
سماء صافية
11:00 AM
14º
سماء صافية
02:00 PM
13º
سماء صافية
05:00 PM
9º
سماء صافية
08:00 PM
9º
سماء صافية
11:00 PM
06:12 AM
05:31 PM
2.78 km/h

حالة الطقس لمدة اسبوع في الناصرة

14º
الأحد
16º
الاثنين
15º
الثلاثاء
14º
الأربعاء
17º
الخميس
16º
الجمعة
16º
السبت
3.74
USD
4.03
EUR
4.70
GBP
236678.60
BTC
0.52
CNY