باب الحارة – بصيص النور في زمن العتمة

من اللافت للنظر ذلك الإقبال المنقطع النظير وتلك الشعبية الكبيرة التي حظي بها مسلسل باب الحارة (2) لدى المشاهد العربي على طول البلاد العربية وعرضها ، حتى إن السكون والهدوء كان يخيم على الحارات والشوارع العربية ساعة بث المسلسل . فقد نجحت هذه الدراما السورية نجاحا باهرا في الاستحواذ على اهتمام المواطن العربي ومتابعته بشكل غير مسبوق، الأمر الذي يثير سؤالا كبيرا عن سر هذا الاهتمام وتلك المتابعة. وللإجابة على هذا السؤال علينا أن نذكر القراء بمحتوى المسلسل ثم الأبعاد التي أراد كاتب المسلسل ومخرجه تسليط الضوء عليها وإبرازها.
محتوى القصة(المسلسل):
تحكي القصة (المسلسل) قصة حارة دمشقية شامية تعيش في سنوات الثلاثين من القرن العشرين تحت وطأة الانتداب الفرنسي- حارة الضبع العتيقة- .تظهر نساء الحارة مخفيات بالملاءات ورجالها يتعاملون مع المرأة بحذر شديد. وأهل الحارة كلهم يحبون بعضهم البعض ويهبون للنجدة بكل نخوة وشهامة عندما يستلزم الأمر، ومخفر شرطة الاحتلال الفرنسي(الكركون) مثال للفساد والارتشاء،من خلال شخصية( أبو جودت) وتابعه( نوري) وخلف الأغطية الكثيفة مجتمع نسائي معزول ومنغلق تدور فيه حروب النساء الداخلية وربما تتقاطع هذه الحروب أحيانا مع حروب الرجال تؤثر وتتـأثر بهم ، كما حصل بين (سعاد وفريال) اللتين اثّر الخلاف بينهما حتى على الوضع العام في الحارة ، ناهيك عن أحلام الفتيات (مثل: دلال، جميلة وهدى....) التي لا تزيد عن الظفر بفارس الأحلام (مثل :عصام، معتز، بشير، إبراهيم...) .وخارج حارة الضبع تقودنا الأحداث إلى الحارة المجاورة حارة( أبو النار) وحروبها مع حارة الضبع ولكن الحرب تتوقف في لحظة الجد عندما يقع العقيد( أبو شهاب) وشباب الحارة في قبضة الاحتلال بعدما هبوا لمساعدة الفلسطينيين.
المسلسل انتهى نهاية سعيدة، تماما كما يحلم المشاهد ويتمنى، فقد عادت الزوجة المطلقة أم عصام إلى زوجها أبو عصام، وكل فتاة تحلم بفتاها حصلت عليه وتزوجته، ونجا أبو شهاب ومن معه من الأسر وكان أبو عصام (المظلوم)وأبوشهاب هما اللذين أنقذاه .

أبعاد المسلسل :
حمل المسلسل مجموعة من الأبعاد والخطوط التي حرص على إظهارها عبر حلقاته والتي في اعتقادي أبرزها أربع أبعاد رئيسية هي:
1) البعد الاجتماعي: يظهر هذا البعد جليا واضحاً في العلاقات الاجتماعية المتينة التي ربطت بين أهالي الحارة ، سواءً داخل الأسرة الواحدة او بين الأسر المختلفة في الحارة، فبرزت مشاعر التضامن والتعاون والمحبة عبر مجموعة من الأخلاق الاجتماعية الغائبة في مجتمعاتنا العربية مثل : احترام الكبير ، المحافظة على الشرف ، النخوة والشهامة  والتسامح.... فنجد أن عضوات الحارة مثلا يحظون باحترام جميع الأهالي وقراراتهم تسري على جميع الأهالي بدون استثناء. لقد شكلت العادات والتقاليد الموروثة حجر الزاوية في النسيج الاجتماعي الذي ساد العلاقات والمعاملات بين أهالي الحارة على اختلاف شرائحهم. ولم يكن ينقص هذه العلاقات القوية  التي عبر عنها أهالي الحارة إلا أن تمتد إلى الحارات المجاورة  بحيث تشكل جميع الحارات نموذجاً للروح الأخوية والتضامنية التي مثلتها حارة الضبع ، إلا أن العلاقة بين حارة الضبع النموذجية مع حارة (أبو النار) كانت بخلاف هذه الروح ولم تتحسن إلا في نهاية القصة أو المسلسل.
2) البعد الديني: مثَّل هذا البعد المتجذر في الحارة الشيخ (عبد العليم) الذي كان عضوا في مجلس الحارة المسؤول عن إدارة شؤونها ، وبما مثل الشيخ من هيبة الدين وقدسيته في نفوس الأهالي ، والتي جعلت الناس يدخلونه في كل شاردة ووارده تتعلق بأمورهم الدينية والاجتماعية .
لقد عبر المسلسل عن مجموعة من القيم الدينية الأصيلة التي منها : بر الوالدين ، مساعدة الفقراء والمحتاجين ، احترام الجار والوفاء ...
وقد يجد المراقب أحيانا صعوبة في وضع الحد الفاصل بين سلطان العادات والتقاليد وسلطان الدين في القصة، إذ غلب سلطان العادات والتقاليد أحيانا الدين كما حصل في طلاق (أبو عصام لام عصام) ، وأحيانا كان الدين يغلب سلطان العادات والتقاليد كما حصل في قصة (أبو بشير ) مع (أبو حاتم) في خلافهما حول الباب.
3) البعد الوطني المقاوم: فالأحداث تتركز حول حقبة زمنية كانت سوريا والشام فيها تعيش تحت وطاة  الانتداب الفرنسي البغيض، وكان الصراع على فلسطين التي قبعت تحت الانتداب الانجليزي في ذروته، وكانت الحماسة لدى الشعوب العربية في دعم المقاومة الفلسطينية في مواجهة اليهود والانتداب على أشدها. والوطني الأصيل هو الذي يساهم بدعم هذه المقاومة وإمدادها بالمال والسلاح. وكان أبو شهاب ومن معه من فتوات الحارة يمثلون هذا الدور الوطني الذي يجلب الشرف والتعاطف لأصحابه، وقد كان الانحياز لتيار المقاومة الداعم للقضية الفلسطينية الفضل في انضمام (أبو النار) وحارته إلى (أبو شهاب) وحارته والى رفع المقاطعة عن (أبو عصام)
الذي كان يدعم المقاومة سرّا. لقد فرضت الثقافة الوطنية المغذية بالدين على أهالي الحارة مقاطعة مخفر الشرطة والانتداب الفرنسي واعتبرت كل من يتعامل معهم خارجا عن الإجماع الوطني وقد يتهم في وطنيته ، ولذلك كان القتل من نصيب (اصطيف) الذي انكشف تعاونه مع الاستعمار .
4) البعد النسوي: حظيت المرأة السورية  الشامية بدور بارز في أحداث المسلسل ولكنه الدور المحصور بين الجدران الذي مثلته المرأة المطيعة والمستسلمة لزوجها ولسان حالها يقول (أمرك ابن عمي) ،فالمسلسل وان قدَّم صورة للمرأة المحافظة التي يتمناها كل غيور إلا انه أهمل جوانب أخرى في المرأة، وهي الجوانب التي يبرز فيها دور المرأة شريكة للرجل في إدارة شؤون الأسرة وفي العمل الإنساني والاجتماعي وحتى النضالي . ولعل السبب في اقتصار المسلسل على هذا الجانب من حياة المرأة هو العادات والتقاليد السائدة في تلك الحقبة الزمنية التي انحسر فيها دور المرأة داخل أسوار أو جدران بيتها . 
لقد كان لهذه الأبعاد الأربعة في اعتقادي الأثر البالغ وراء نجاح هذا المسلسل، إذ أن هذه الأبعاد تكاد تكون مفقودة في مجتمعاتنا المعاصرة . وجاء المسلسل بطرحه لها وإبرازها ليشد المشاهدين إلى ماض أصيل فقدوه في زمان طغت فيه القيم المادية وحضارة العولمة على العالم وتهاوت فيه كل النظريات والطروحات المعاصرة. وأصبح الحنين إلى الماضي بكل ما يمثله من بساطة وقيم وأصالة  هو الحصن الذي يتحصنون فيه والمخرج الذي يلجأون إليه للتخلص من حالة الضياع والذل والهزيمة التي تحياها الأمة العربية والإسلامية .
فباب الحارة يمثل ولا شك يمثل الاصالة في مواجهة الحداثة المتمردة ويمثل التماسك الاجتماعي مقابل التحلل الاسري والتفكك الاجتماعي ويمثل الشعور بالامل والعزة والتحدي مقابل حالة الاحباط والذل  والخنوع السائدة ...
بل يمكن القول ان باب الحارة شكل بالنسبة للمواطن العربي نقطة الضوء وسط بحر الظلام والعتمة التي نعايشها .
وصدق شاعرنا هاشم الرفاعي عندما قال
ملكنا هذه الدنيا قرونا  وأخضعها جدود خالدونا 
وسطرنا صحائف من ضياء  فما نسي الزمان وما نسينا
وما فتئ الزمان يدور حتىمضى بالمجد قوم آخرونا
وأصبح لا يرى في الركب قومي وقد عاشوا أئمته سنينا
وآلمني وآلم كل حر  سؤال الدهر : أين المسلمون ؟