الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 05 / مايو 06:02

عيد الأم في فلسطين- بقلم: ريما كمال (أكاديمية وباحثة من فلسطين)

كل العرب
نُشر: 19/03/10 13:39,  حُتلن: 08:37

* سوداوية الصورة ازدادت عندما باركت النظم العربية المعتدلة عملية التفاوض اللانهائية

* رغم كل الإحباطات المادية والمعنوية، بقيت أمهاتنا على أرض فلسطين متجذرات في بيوت عتيقة رطبة في مدن وقرى ومخيمات فلسطين

* صحيح أن يوم الأم ليس عيدا للأم في فلسطين، ولكنه رمز لهذه الأم التي نفهم تماما لماذا عبر الراحل الكبير محمود درويش عن خجله منها

من المسؤول عن بقاء معظم الأمهات على أرض فلسطين – ولعقود طويلة – وحيدات ومحرومات من أن ينلن قسطا بسيطا مما قدّمنه لأبنائهن من رعاية ورحمة؟ مثل هذا السؤال يحتاج إلى وقفة مصارحة مع الذات أولا، وتجاه الآخرين ثانيا.

عندما قال السيد عبد الباري عطوان في مطلع آذار لإحدى القنوات الفضائية إن حل القضية الفلسطينية لا يكون إلا بالعودة إلى الوضع الحقيقي القائم، وهو أنّ هناك احتلال للأرض والشعب، وأن سبعة عشر عاما من المفاوضات الخاوية هي مدة أكثر من كافية لإعلان وفاة هذه المفاوضات...

عندها.. عادت بي الذاكرة إلى أيلول عام 1967، عندما عبرت مع مجموعة من الطلبة الجامعيين الجسر المهدّم من الأردن إلى فلسطين، وبتنسيق إسرائيلي، تمّ بناء على طلب من آبائنا الذين، وبجهل دافعه عاطفة الأهل للقاء الأبناء، قاموا بخطوة أولى بالتواصل مع الاحتلال. لم تكن الترتيبات بعد قد تمّت للعبور الرسمي للجسر ما بين الأردن وفلسطين، فلا تسجيل ولا نقاط تفتيش.. كان العائدون فقط بالعشرات ووفقا لإجراءات فردية تتقدم بها العائلات إلى الحكم العسكري الإسرائيلي. وقتها، كنا جميعا – كجزء بسيط من الشعب الفلسطيني – مسؤولين عن الإذعان بالقبول بالطرف المحتل والاصطفاف أمام عتباته.

وسرعان ما تم تفعيل إجراءات الدخول الرسمية إلى فلسطين بعد تنظيم حركة التنقل ما بين الأردن وإسرائيل. وبعد أن قبلنا (غصبا) بحمل بطاقة هوية لتكون جواز مرورنا لنعبر بواسطتها جسر الأردن ذهابا وإيابا مع تصريح عبور صادر عن الحكم العسكري (والذي تطور بعدها إلى حكم مدني!). يومها سقط معظم الشعب المحتل المقهور في مصيدة الاحتلال. وأصبح وقوفنا بالآلاف يوميا عند نقاط التفتيش الإسرائيلية أمرا روتينيا، ولنتحرك فقط بإشارة من إصبع الجندي أو الجندية الإسرائيلية ليتم السماح لنا بالعبور للدراسة أو العمل.

ومنذ ذلك الوقت، وعلى مدى أكثر من أربعين عاما بدأ التهجير الطوعي وتفريغ فلسطين من عشرات الآلاف من الشباب سنويا مع ارتفاع البطالة وصعوبة المعيشة وفقدان الأمن، وليستقر معظم هؤلاء الشباب في مقرّ إقامتهم الجديد، وليأتوا في عطلة سنوية زائرين للوطن في أيام معدودات مع عائلاتهم الجديدة، وليتعاملوا مع هذا الوطن كسائحين يريدون التمتع بخيراته والذود بأنفسهم عن مأساته.

وهكذا أصبح مئات الألوف من الفلسطينيين ممن يمتلكون بطاقات هوية تخوّلهم حق البقاء على أرض فلسطين يعيشون خارجها، لأنهم (وأنا منهم) اختاروا هذا الوضع بدعوى تحصيل الرزق والأمن وتحقيق الذات. ولا يخفى أننا بتنا نعيش حالة غريبة من النفاق النفسي عندما نعبّر وبشكل متواصل عن الحنين للوطن أمام امتناعنا عن الرجوع إليه، في الوقت الذي بقي فيه أقرب الأقرباء من أهلنا وعلى رأسهم أمهاتنا.. بحثنا عن الأمن والأمان خارج الوطن، ولم نجن غير فقدان التوازن النفسي والاجتماعي في بحثنا المتواصل عن هويتنا التي افتقدناها ونحن نعيش أيامنا نحلم فيها بالرجوع إلى الماضي ما دام المستقبل مبهما.

وجاءت الطامة الكبرى عندما تحولت منظمة (التحرير) الفلسطينية إلى (السلطة) الوطنية الفلسطينية، ودخل رئيسها وفريقه أرض فلسطين بقبول ودعم من الكيان الصهيوني، وليتم إعطاء فريق السلطة صفة الشخص المميز VIP أثناء عبورهم هم وذويهم من وإلى فلسطين. ومنذ ذلك الوقت سقطت القيادة الفلسطينية في مصيدة (شرعنة) الاحتلال، بل وشاركت معه في إيقاع الشعب في وهم قرب التحرر من الاحتلال مع إشاعة أكذوبة (أولا وتاليا) لمناطق سيتم تحريرها.

كانت النتيجة الفعلية لدخول هذه السلطة أن المناطق السكنية تم إخلاؤها من جيش الاحتلال، وتسليمها للسلطة الفلسطينية في احتفاليات متتالية أقل ما يمكن وصفها بالمهزلة، وأخطر ما فيها أنها مكنت جيش الاحتلال، وبمساندة من السلطة من وقف الانتفاضة! فقد تمّ في حقيقة الأمر خروج جيش الاحتلال من المناطق السكنية واكتفاؤه بحصارها بشكل كامل، وبالتالي التحكم في تحرك أفرادها بين المدن والقرى بمئات الحواجز، ففقد الشعب إمكانية المقاومة التي كان يملك أدواتها ضد الاحتلال على مدى سنوات أبدع خلالها ما عرف في العالم كله بانتفاضة الحجارة.

فلقد صممّ الشعب الفلسطيني انتفاضته انطلاقا من داخل أزقة المدن القديمة والمخيمات المكتظة التي يسهل للمتحصنين العزّل الهروب داخلها من على أسطح المنازل المتلاصقة، في الوقت الذي كانوا يمطرون جنود الاحتلال بالحجارة. أمّا وقد غادر الجيش الإسرائيلي إلى خارج المدن والقرى فلم يبق أمامهم سوى الخروج مع حجارتهم إلى أطراف التجمعات السكنية حيث جنود الاحتلال بالمرصاد لهم مع أي تحرك.. تلك الحجارة التي مثلت خير شاهد ومحرّك في العالم كله لحقيقة أن هناك شعبا محتلا يقف بصلابة وشجاعة نادرة أمام جيش إرهابي غاصب.

وهكذا اكتظت المدن والقرى الفلسطينية بالفصائل التابعة للسلطة الفلسطينية، والتي شكلت في مجموعها طبقة متميزة في سيطرتها على الشعب الفلسطيني سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وبشكل مركب ومزدوج مع سيطرة الاحتلال. صورة لا أحسب أن الكثير من القراء يمكن لهم أن يتفهموا أبعادها المأساوية، فقد قال أجدادنا صادقين (الحكي مش مثل الشوف).

وازدادت سوداوية الصورة عندما باركت النظم العربية المعتدلة (والمدركة بذكاء غير عادي لقوى التوازن الدولي والإقليمي!) عملية التفاوض اللانهائية، بل وشاركت في مبادرات تصالحية متواصلة لم تجد (ولن تجد) لها مجيبا أو متجاوبا، فلماذا سيعطي الطرف الآخر أي شيء ما دام الهوان العربي بات سيد الموقف؟

وفي ظل هذا كله، ورغم كل الإحباطات المادية والمعنوية، بقيت أمهاتنا على أرض فلسطين متجذرات في بيوت عتيقة رطبة في مدن وقرى ومخيمات فلسطين، رافضات حتى مجرّد التفكير باللحاق بالأبناء في دول المهجر التي تكاد تغطي دول العالم بأسره. فرغم حب الأم الذي لا يمكن تصور مداه وقدره لأبنائها، فإن حب الأم الفلسطينية لفلسطين لا يعادله أي حب، وأي قرب.. وبهذا تفوقت الأم في فلسطين على أبنائها – حاملي الشهادات الجامعية العليا – في علمها وحكمتها ووفائها، كما تفوقت في تعريفها للشعور بالأمن والأمان، إذ بقينا نحن الأبناء يسكننا حنظلة، ونحن في حالة بحث دائم عن هوية افتقدناها، وأشباه أوطان اخترعناها.. ننتهز الفرصة من عام لآخر لنهنأ أمهاتنا بعيد الأم عبر خطوط الهاتف عن بعد، ونحن ندرك أنهن في أمسّ الحاجة إلى قربنا تماما كما نحن بحاجة حقيقية إلى هذا القرب، إن لم يكن أكثر.

صحيح أن يوم الأم ليس عيدا للأم في فلسطين، ولكنه رمز لهذه الأم التي نفهم تماما لماذا عبر الراحل الكبير محمود درويش عن خجله منها، فأحسب أننا جميعا نخجل من أمهاتنا، وندرك دون أن نصرّح أننا مشتركون في تحمّل مسؤولية ما تقاسيه على أرض فلسطين. 
 

مقالات متعلقة