الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 10 / مايو 18:02

ما أصل الكلمة النصرانية – مادة للتفكير، بقلم: جريس بولس

كل العرب
نُشر: 27/02/10 11:39,  حُتلن: 15:09

* تعبير "نصارى" عند العرب، قبل المسيحية الرسولية ولا يزال حتى اليوم، يطلق على كل جماعة لا تمارس الختان، أو هي امتنعت عنه

* من غير المنطقي ان تكون النصرانية نسبة الى مدينة الناصرة، لان هذا يفترض ان كل مسلمي المدينة في هذه الحاله، سوف يسمون اليوم "نصارى" ما داموا يقيمون فيها وينتسبون إليها

ديانة العرب التوحيديَّة التي آمن فيها العرب بدين عيسى بن مريم، وجمعت في إطارها فرقاً وشيعاً من الموحدين الذين توافقوا على نبذ الأصنام والتعبد للخالق الواحد الأحد. إن ما يُدْعى في المؤلفات التاريخية "بظاهرة الأحناف" لا يقصد منه برأينا، سوى توصيف فرقة من فرق النصرانية المتراجعة والمنزوية، والتي ظلت على "ملَّة إبراهيم" في سياق محاولتها الحفاظ على بقية من دين عيسى بن مريم، وذلك في وجه الموجة المسيحية الجديدة الهائلة التي اندفعت صوب الجزيرة العربية مع تصاعد الحملات الحربية والتبشيرية.
و"الأحناف" – في إطار النصرانية – فرقة (ملَّه، شيعة صغيرة من الشيع) لم تقبل بالأفكار والرؤى والتصورات اللاهوتية والفلسفية التي وفدت من خارج الجزيرة العربية، وجعلت المسيح في منزلة الإله. والنصرانية، بعد هذا، هي "أم المسيحية" الرسولية التي ولدت على يد بولس الرسول، وهي الاصل فيها كذلك، ولم تكن ديانة وافدة او غريبة عن بيئة العرب الحضارية القديمة. ومن نافل القول ان نشير إلى ان كلمات "نصارى" و"نصراني" "ونصرانيه" التي استخدمها العرب القدماء، كمرادف لكلمات "مسيحيون" و"مسيحيّ" و"مسيحيّة"، أثارت الكثير من الجدل بين علماء اللغة والدين والتاريخ. وكما كان الحال في الماضي، فقد تركز الجدل المستمر حتى اليوم، على محاولة تأويل الكلمة بافضل طريقة ممكنة.
وشاع ان للكلمة صلة باسم الناصرة في فلسطين، وان كلمات "نصرانيه" و"نصارى" و"نصراني" جرى اشتقاقها من اسم هذه المدينة الفلسطينية التي تعد تقليدياً مهد المسيح، بيد أن هذا التأويل لا يزال عاجزاً عن تقديم حل مقبول يؤدي الغرض المطلوب، إذ من غير المنطقي ان تكون النصرانية نسبة الى مدينة الناصرة، لان هذا يفترض ان كل مسلمي المدينة في هذه الحاله، سوف يسمون اليوم "نصارى" ما داموا يقيمون فيها وينتسبون إليها؟ او ان كل الوثنيين الذين كانوا في المدينة وقت ظهور المسيحيه وانتشارها، هم ايضاً ً"نصارى" نسبة للمدينة، ما داموا من سكانها مثلهم مثل المسيحيين؟ وهذا ما لا يقول به احد. وقد ضَعَّف ابن منظور صاحب لسان العرب الراي الذي طرحه بعض كبار أئمة اللغة، والقائل بوجود صلة بين اسم المدينة الفلسطينية وكلمة نصرانيه. في رأينا نقدم تأويلاً للكلمة عبر تحليل الجذر الثلاثي (نصر) ومنه "أنْصَرْ" التي وردت في حديث الرسول العربي الكريم – (ص) -: (لا يؤمنكم أنْصَرْ) (انظر فاضل الربيعي: شقيقات قريش: الانساب والطعام في الموروث العربي – شركة رياض الريس للنشر، بيروت 2002. ص 269)، أي أقْلف (غير مختون). وارتايت ان المعنى الحقيقي للكلمة يجب ان ينصرف إلى هذه الدلاله وحدها. (انظر ايضاً لسان العرب لابن منظور).
كان تعبير "نصارى" عند العرب، قبل المسيحية الرسولية ولا يزال حتى اليوم، يطلق على كل جماعة لا تمارس الختان، أو هي امتنعت عنه.
وهذا يعني ان التعبير كان يستخدم في طفولة العرب البعيدة، كوصف للوثنيين الذين ابطلوا شرعة الختان، ثم اقتصر إطلاقه تالياً ومع تصدُّع اليهودية، على فرق بعينها من الموحّدين الذين ابطلوا هم ايضاً، شرعة الختان وقاوموها في سياق صراعهم مع اليهودية. لكن، ومع انتشار تعاليم المسيحية في مجتمع القبائل العربية، أصبح التعبير نفسه، المستمر باستمرار المجتمع، يطلق على اتباع المسيحية الجديدة من دون سائر الوثنيين الذين لا يختنون ايضاً، علماً ان بعض القبائل الوثنيه كانت تمارس الختان ومن دون ان يعني ذلك انها كانت مؤمنة بالتوحيد.
وهكذا، يتضح ان "معنى النصرانية" في ثقافة العرب القديمة، كان يعني الامتناع عن ممارسة الختان او تعطيله كشريعه" أو الانقطاع عن ممارسته كطقس ديني قديم، وذلك تجسيداً لتعاليم دينيه جديدة اعتنقتها جماعه بعينها، تخطت تراثاً سابقاً من التعاليم الدينية اليهودية التي شرَّعت الختان، وانتقلت الى عصر ديني جديد كانت فيه طقوسية قطع القُلْفه عن العضو التناسلي عند الذكر والأنثى قد انحسرت، او اصبحت ممارسة دينية زائلة.
ومعلوم ان كثرة من قبائل العرب ما قبل اليهودية، عرفت الختان في طفولتها البعيدة ومارست طقوسه، وهو عصر سابق لوجودها كقبائل عربية، وذلك ما تشهد عليه الدلائل الاثرية والقصص الديني على حدّ سواء (من الثابت عند علماء السومريات ان الختان لم يلعب اي دور في الحياة الدينية للسومريين، ومع ذلك عثر علماء الاثار في موقع تبَّة كورا شمال العراق على تمثال من الحجر يعود الى 3000 – 2500 ق.م لرجل عارٍ يظهر عضوه التناسلي مختوناً. وهذا ما يؤكد ان عادة الختان في الشرق القديم سبقت عهد ابراهيم وموسى (انظر: هاري ساكز، عظمة بابل، 2002 – ترجمة خالد اسعد عيسى واحمد غسان سبانو، منشورات الدار السورية الجديدة ومؤسسة رسلان علاء الدين، دمشق، ص: 180).
وقديماً قال ابو الأخزر الحِماني (انظر رواية صاحب تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي)، يصف ناقَتَيْه وقد طأطاتا راسيهما من الاعياء:

فكلتاهما خَرَّت وأسجدتْ رأسها
كما اسْجَدَتْ نُصرانه لم تَحْنَفِ

وهذه الصورة الشعرية الرائعة التي توصف فيها الناقة عندما تبرك من التعب ب"نصرانه" تتضمن إشارة هامة للغاية الى الدلالة القديمة والاصلية لكلمة نصر، ومنها أنصر بمعنى الاقلف (غير المختون) والذي يسجد لله موحِّداً، ولكنه تخلى عن شرعَة الابراهيمية في الختان.
براي كل من الازهري مؤلف "تهذيب اللغة" (من ائمة اللغة والادب: 282 – 370 هجرية، 895 – 981 م) والزبيدي، صاحب القاموس الشهير "تاج العروس من جواهر القاموس"، فان تعبير "نصرانه" الذي استخدمه الشاعر الجاهلي في هذا البيت من الشعر، يدل على ان "واحد النصارى نصران والانثى "نصرانه" وفي هذا الصدد يلاحظ الزبيدي ان (الأنْصر: الأقلف، وهو مأخوذ من مادة النصارى لانهم قُلْفْ. قال الصاغاني: وفي الاحاديث التي لا طرق لها: لايؤْمنُكُم أنْصَر ولا أزَن ولا افْرَع. والأزَنَ: الحاقن، والافرع الموسوس، والانصر: الاقلف)، وهذا ما يؤيده الازهري وابن منظور وكثير من أئمة اللغة.
ويبدو ان بعض العرب في الاسلام كانوا يخلطون بين كلمة "انصاري" الجديدة على قاموسهم اللغوي للدلالة على المسلمين في المدينة ممن استقبلوا مهاجري مكة، وبين كلمة "نصراني" القديمة.
ويروي ابن الجوزي في "اخبار الحمق والمغفلين" الطرفة التالية التي تؤكد وجود هذا الخلط: ان رجلاً من المسلمين كلَّم اخر بشيء يغضبه. فقال له: اتقول لي هذا وانا رجل من الانصار؟ فقال الرجل: النصارى واليهود عندنا في الحق سواء. ومعلوم ان قبائل العرب على اختلافها مارست، فيما يعرف بالجاهلية الاولى، عادة شرم اذن الناقة كبديل رمزي عن الختان، ولكن ضمن ضوابط وشروط من بينها ان تلد عشرة بطون، وحينئذ تُشرم اذنها ويخلى سبيلها، وذلك ما عبَّرت عنه اسطورة ناقة صالح. (عرف العرب في الجاهلية اسطورة ناقة صالح في قبيلة ثمود). وبذلك يكون تاريخ الختان قد شهد انتقالاً جذرياً مع انتقال ممارسته في العصور الاولى وبالتعاقب، من الحيوانات الى البشر، وليصبح طقساً دينياً يستمد قوته من شرعة قديمة. ان القبول بفكرة وجود علاقة دلالية بين الجذر الثلاثي نصر بمعنى أقلف (غير مختون) والنسبه اليه نصْراني، يقدم براينا حلاًً سليماً وصحيحاً للمسألة المطروحة، لانه سيضع كلمة "نصراني" في قلب مفهومها القديم والمستمر، اي غير المختون، وليس نسبة الى مدينة الناصرة.
وفي هذا النطاق،يمكن التأمل عميقاً في دلالة الاسم العربي القديم "نصَّر" الذي تشترك فيه الاسرة الحاكمة في الحيرة والعاهل الآشوري العظيم نبوخذ نصَّر، بالرغم من الفاصل الزمني الهائل بينهما، فالاسرتان فيما تعلم عاشتا في مكان واحد وضمن تاريخ واحد ايضاً (بابل ثم الحيرة التي حلَّت محلها) وكانتا وثنيتين لا تعرفان ممارسة الختان الطقسية، وللزبيدي صاحب التاج في هذا السياق رأي مثير وجدير بالتأمل. قال: (وبخت نصَّر - بالتشديد – معروف. قال الأصمعي: انما اصله بوخت نصَّر ومعناه ابن، ونصَّر – كبقم – صنم فأعرب. وقد نفي سيبويه هذا البناء). واذا ما قمنا من هذا المنظور المقترح، بمحاولة فهم سر العلاقة الدلالية التي تجمع الاسمين، ربيعة بن نصَّر احد مؤسسي مملكة الحيرة، ونبوخذ نصَّر عاهل بابل، فسوف يكون بوسعنا آنئذ ان نحصل على حلول معقولة لبعض المشكلات المتراكبة، والمتعلقة بالاصول البعيدة للشعوب التي استوطنت بلاد ما بين النهرين. وفي هذا النطاق، لا يبدو مستبعداً ان تكون ثمة روابط اسرية بعيدة جمعت العائلتين في المكان نفسه. لكن كلمة (أنْصَر) التي تدل على جماعة دينية بعينها، امتنعت او حرّّمت او أبطلت عادة الختان، لا تؤكد بالضرورة مسيحية هذه الجماعة، لان الكلمة اطلقت قديماً على الجماعات الوثنية ايضاً. ان استخدام العرب والمسلمين حتى اليوم لكلمة "نصراني" للدلالة على المسيحي باطلاق، يدعم حقيقة ان فكرة الختان وممارسته، لا تزال حاضرة في هذا التعريف، وانها انتقلت من نطاق ممارسة الطقس الديني (الشعيرة) الى نطاق التميز الديني بين الجماعات، وان العرب استخدموا الكلمة نفسها قبل عصر المسيحية، للدلالة على جماعات لم تمارس الختان وحسب قبل ان تتطور وتصبح دالّه على "المسيحي" باطلاق.

مقالات متعلقة