الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأربعاء 01 / مايو 23:02

تماثيل وتماثيل


نُشر: 15/09/07 09:09

ما أعدل التاريخ، القديم منه والحديث، فهو يعمل دائما بمشيئة الله عز وجل على مبدأ ، يُمهل ولا يُهمل، فأحيانا ينتظر التاريخ طويلا قبل أن يُنزل عقابه بالطغاة والمستبدين، وأحيانا أخرى يقتص منهم قبل هلاكهم كما حدث لبعض الطغاة العرب . فبالرغم من الاتهامات الكثيرة التي يوجهها البعض للتاريخ والمؤرخين، إلا أن التاريخ  يبقى أقرب إلى العدالة منه إلى الظلم والإجحاف.

لا شك أن المنتصرين وكتبة الزعماء والسلاطين هم الذين يكتبون التاريخ في معظم الأحيان، فيبرزون ما يريدون، ويعتمون على نقائصهم ونقائص أسيادهم وفضائحهم وجرائمهم وعارهم ، ولا شك أيضا أن المؤرخين قد يتلاعبون بكتابة التاريخ أحيانا أخرى. ويقول المؤرخ البريطاني هنري كار في هذا السياق: " قبل أن تقرأ التاريخ اقرأ عن المؤرخ ، وقبل أن تقرأ عن المؤرخ اقرأ عن ظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية". بعبارة أخرى فإن تلك الظروف تلعب دوراً في تلوين نظرة المؤرخ إلى أحداث الماضي.
ولا ننسى أن بيتا من الشعر لشاعر العرب الأعظم المتنبي قد شوه سمعة كافور الإخشيدي مرة وإلى الأبد، فقد قال فيه بعد أن فقد الأمل بالحصول منه على ولاية في مصر كي يكيد عذاله مثل أبي فراس الحمداني وغيره  : "لا تشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد". صحيح أن كافور كان عبداً أسود ذا شفتين غليظتين، لكنه تسلم الحكم بعد وفاة سيده، وكان معروفاً بكرمه وطيبته، لا بل كان رجلا عظيماً، إلا أننا لا  نتذكر كرم الإخشيدي وطيبته، بل يقفز إلى ذهننا دائماً هجاء المتنبي له. ومن الشخصيات التاريخية الأخرى التي تعرضت لظلم التاريخ وخبراء التحريف والتزييف السلطان عبد الحميد الذي شوه الصهاينة سمعته بشكل حقير من خلال وسائل إعلامهم الشيطانية، لا لشيء إلا لأنه رفض أن يسمح لهم بالاستيطان في فلسطين أيام الحكم العثماني لها. حتى أنه منعهم من بناء قبور لليهود هناك، فثارت ثائرتهم عليه، وراحوا يشنون عليه الحملة تلو الأخرى، حتى حولوه في أعين الناس إلى شيطان ، هذا مع العلم أنه كان رجلاً فاضلاً وعظيماً وزاهداً بالمقارنة مع من سبقه من السلاطين العثمانيين. والمؤسف أننا، نحن العرب، صدقنا كذب اليهود والصهاينة وأقوالهم عن السلطان المذكور، ورحنا نرددها كالببغائات.

 وصحيح أيضا أن بعض الدول تنفق الملايين وتقيم تماثيل للنكرات والتافهين ممن لا محل لهم من الإعراب بمقياس التاريخ حتى في محل مجرور، ولا تكلف نفسها تمويل بناء تماثيل بسيطة للأبطال التاريخيين الحقيقيين الذين حرروا الأوطان من رجس المستعمرين. وصحيح أيضا أن بعض القادة يحاولون أن يمحوا التاريخ بمجرد وصولهم إلى سدة الحكم، كما لو أن التاريخ قد بدأ بهم. ولا يتردد بعض الحكام أن يجيروا كل بطولات التاريخ لصالحهم الخاص بالتعتيم على الأبطال الحقيقيين، لولا أن ذلك مستحيل بسبب عامل الزمن فقط. لكن بالرغم من كل ذلك، يمكن القول إن التاريخ قد يكون أدهى من كاتبيه ورواته في الكثير من الأحيان، وهو بالتالي قادر أن يوصل الحقيقة إلى الأجيال، ويحقق العدل رغماً عن أنوف كل المؤرخين والمتلاعبين.

 كم تكالبت الأقلام على  بعض القادة التاريخيين في عالمنا العربي وغيره، وكم حاول البعض تشويه تاريخ بعض الشخصيات والأحداث عاماً بعد عام، وبطريقة شبه منظمة أحياناً، كأن ينتقصوا من قدرها وبطولاتها وإنجازاتها، ويغيروا مسمياتها وألقابها العظيمة التي حققتها بعرق جبينها ، لكن لم تستطع أن تنال منها، لأن الحق كالزيت دائما يطفو فوق الماء. فالتاريخ يستطيع في أوقات كثيرة أن ينتقم للمجني عليهم بطريقته الخاصة، فيعيد الحقوق إلى أصحابها ولو بعد حين. وكم حاولت بعض القوى الغاشمة أن تحرف التاريخ عن مساره، وتلونه، وتزينه حسب أهوائها وغاياتها، كما فعل بعض المستبدين العرب البائدين ، لكنها أيضا فشلت فشلاً ذريعاً، فمن المعروف أن جهات كثيرة حاولت أن تعظّم من شأن بعض رجالاتها وبطولاتها الوهمية أو الملفقة ، فقامت بحملات منظمة على مدى السنين خلال حياتهم وبعد مماتهم كي تصنع منهم شخصيات تاريخية يخلدها التاريخ . وكم من الملايين أنفقت لهذا الغرض في الدعاية والكذب والتطبيل والتزمير، لكن ما أن مرت السنين على رحيل هؤلاء حتى تبخر كل شيء، فلم يبق منهم حتى الذكرى، بالرغم من الجهود الهائلة التي بُذلت، وما زالت تُبذل كي يبقوا على قيد التاريخ. فالتاريخ أعدل وأكثر ذكاء من كل الذين يحاولون خداعه والتحايل عليه، فهو ميزان دقيق في أحيان كثيرة، ويستطيع أن يميز بسهولة ويسر الغث من السمين والعظيم من الهزيل والكريم من البخيل والشهم من الحقير.


كم يبدو التاريخ صارماً مع الطغاة والسفاحين من الحكام ، فهو يميل دائما إلى محاسبتهم ومعاقبتهم عقاباً شديداً دون أن ينسى جرائمهم وبشاعتهم بحق الإنسانية. لا بل إنه لا يتردد أحياناً في ظلمهم عمداً، ولنأخذ مثلا شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي المعروف بسفاح بني أمية، هذا مع العلم أنه لم يكن من الأمويين ، لكنه كان في خدمتهم . ومما قد ننساه عن الحجاج أنه كان رجلاً عظيماً ومثقفاً بليغاً وغاية في الكرم والشهامة. فكان يكره أن يأكل بمفرده لشدة جوده، ولهذا كان يجمع حوله أكثر من خمسين رجلا ليشاركوه الطعام، ناهيك عن أنه كان يعشق البلاغة وكل من يتقنها، وكان يعفو عن المدانين إذا وجد فيهم ميلاً للبلاغة والكلام الجميل. لقد كان الحجاج شخصية استثنائية بكل المقاييس. لكن التاريخ يكاد أن يمسح له من ذاكرته كل هذه الخصال الرائعة لا لشيء إلا لأن الحجاج كان سفاحاً من الطراز الأول، بالإضافة إلى كرمه وجوده وبلاغته وثقافته. فالأجيال لا تتذكر من تاريخ الحجاج سوى جملته المشهورة : " إني أرى أرؤساً قد أينعت لحصادها، فأين ولا أين السيوف القواطع؟ " فمن المعروف أن الحجاج كان بالمرصاد للبطش بكل من يقف في وجه بني أمية ومعاوياتهم. لقد كان جباراً بامتياز، فلم يخلد التاريخ لنا منه سوى هذا الجانب المظلم وربما عن قصد، فالتاريخ ، كما قلت، يميل إلى العدل في كثير من الأحيان، فعظمة الحجاج في النواحي الأخرى لم تشفع له عند التاريخ،  فحجز له مكاناً بين الساقطين ومصاصي الدماء والحثالة.

 لنأخذ أيضا  جوزيف ستالين القائد السوفيتي الشهير، فهو الذي صنع من الاتحاد السوفيتي خلال فترة حكمه دولة عظمى نافست أمريكا والغرب كله بقوتها العسكرية والصناعية ، ومازالت الأبنية الروسية العملاقة شاهدة على ميراث ستالين في فن العمارة والبناء . ونذكر منها مثلاً جامعة موسكو الشهيرة ببنائها الرائع ، لا بل إن  ستالين هو صاحب الانتصار السوفيتي على أدولف هتلر والنازية  خلال الحرب العالمية الثانية، فهو الذي قاد الجيش السوفيتي العظيم، وشحذ الهمم، ولعب على الحس القومي لدى الروس لخوض الحرب والانتصار فيها، بالرغم من أنه كان زعيماً شيوعياً لا يؤمن بالقومية. وأبلت القوات الروسية تحت قيادته بلاء حسناً، حتى لو خسرت من جنودها أكثر من عشرين مليون قتيل. وبالرغم من أن ستالين ظهر في تلك الصورة الشهيرة مع الزعيم البريطاني وينستون تشيرتشل والرئيس الأمريكي روزافلت  أثناء مؤتمر يالطا الشهير كقائد منتصر، بالرغم من كل تلك الإنجازات العظيمة حقاً، إلا أن التاريخ لم يركز عليها كثيراً، ولم يعطها الأهمية التي تستحقها،  لكن ليس إجحافاً، بل ربما عقاباً لهذا الديكتاتور الذي حاول الكثير من الطواغيت أن يقلدوه في عالمنا. فالتاريخ لم ينس لستالين جرائمه التاريخية أيضاً، فهو الذي أباد الملايين أثناء فترة حكمه، وهو الذي نكلّ بشعبه أبشع تنكيل ، ولا أحد يستطيع أن ينسى القمع الوحشي الذي تعرض له الشعب الروسي إبان فترة هذا الطاغية الجبار. فالتاريخ يكاد أن يهمل عظمة ستالين وإنجازاته الكبيرة أمام هول جرائمه وبشاعته، فعندما يُذكر اسم ستالين تقفز إلى الأذهان فوراً صورة المستبد الأعظم الملطخة يداه بأنهار من الدماء، والغريب أننا نتجنب بطريقة واعية أو غير واعية  ذكر إنجازاته أو التركيز عليها، فنميل مباشرة إلى إنزال اللعنات على روحه، وتلهج ألسنتنا فوراً بذمه وسبه أحياناً. تلك هي لعنة التاريخ على كل الذين أزهقوا أرواح شعوبهم لإرضاء نزعاتهم الدموية السافلة والحقيرة والدنيئة، فأقاموا دولهم المضرجة بالدماء فوق أكوام من الجماجم والجثث.  ولعل مثال ستالين يكون درساً لكل الزعماء الذين يحاولون أن يغطوا تاريخهم الدموي الأسود ببعض الإنجازات، فالتاريخ لا يرحم إلا الراحمين، حتى وإن لم يحققوا إنجازات عظيمة.

وقد يقول قائل في هذا السياق إن التاريخ خلّد العديد من القادة العظام الذين تلطخت أياديهم بالدماء، ولم يضرهم هذا أبدا، وهذا صحيح، لكن انتصاراتهم وبالتالي فظاعاتهم  كانت ضد أعدائهم وهذا أمر مباح لا بل يعتبر نوعاً من البطولة حسب مقاييس التاريخ، أما بالنسبة للطغاة والمستبدين الجديرين بالاحتقار فهم أولئك الذين لم ينتصروا إلا على شعوبهم بالقتل والدمار والتشريد وتكبيل الحريات ودوس الكرامات، فهؤلاء لا تحل عليهم إلا اللعنات، وهم للأسف الشديد كثر، فالماضي البعيد والقريب مليء بالستالينات ، لكن مكانهم محجوز مسبقا في قعر التاريخ، فالأسفل  للسافلين دائما. فمشكلة ستالين أنه لم يكتف بنصره على النازيين، بل أراد أيضا أن ينتصر على أبناء شعبه.

وكما أن التاريخ يعاقب الجزارين والجبارين بطريقته الخاصة، فإنه أيضا يكرّم العظماء الحقيقيين، فالشعوب أذكى من أن تخدعها الألقاب الكبيرة وعبارات الإطناب والتعظيم المفروضة بقوة الحديد والنار والكلاب البوليسية، فتماثيل العظماء الحقيقيين  تبقى لمئات السنين، ولا تؤثر فيها سوى العوامل الجوية من برد وصقيع وحر ، أما تماثيل أولئك الذين يزعمون العظمة ويحاولون فرضها زوراً وبهتاناً عن طريق الدعاية والأكاذيب وحملات التطبيل والتزمير والنفخ فهي آيلة للسقوط في أقرب فرصة مواتية، لكن ليس بسبب تقلبات الطقس بل بأيدي الشعوب، فتماثيل وستالين وأمثاله  العرب كانت تملئ الساحات والأبنية،  لكن ما أن أتيحت أول فرصة للشعب الروسي كي يقتص من جلاديه حتى انهالا على تلك التماثيل القميئة بالفؤوس والأحذية والركلات ، فلم يبق منها شيء يُذكر، فتم تدمير بعضها ونُقل بعضها الآخر من مكان إلى مكان. فالتماثيل تبقى لأمد طويل إذا كانت الشعوب راضية عن أصحابها فقط ، أما إذا كانت ضحية لهم ولهمجيتهم وديكتاتوريتهم القبيحة ، فهي تكون على أحر من الجمر كي تزيلها وتبنى مكانها مراحيض عامة انتقاماً من الطغاة وميراثهم الوسخ. أين تماثيل ونصب القادة الشيوعيين فيما كان يسمى أوروبا الشرقية؟ لقد تم رميها في مزابل التاريخ، وهو مكانها الأمثل. فالشعوب لا تنسى جلاديها حتى بعد مرور قرون على نفوقهم، لكنها أيضا لا تنسى قادتها العظام.

انظر كيف عاقب العراقيون والروس طواغيتهم بتمريغ تماثيلهم بالتراب والأوساخ، وانظر كيف كرّمت الشعوب العربية أبطالها الحقيقيين الذين حرروها من رجس الاستعمار العثماني والبريطاني والفرنسي والإيطالي وغيرهم، فكل النصب التي أقامتها الشعوب لهؤلاء الثوار ما زالت شامخة تزّين ساحات الوطن العربي وميادينه بمباركة كاملة من تلك الشعوب ورغماً عن أنف الطغاة الذين حكموا البلاد العربية بعد الاستقلال وحاولوا أن يفرضوا تماثيلهم الزائفة بالحديد والنار. لكن بينما ستبقى تماثيل المحررين الأصلاء منتصبة،  فإن التماثيل المفروضة ستنهار عاجلاً أم آجلاً.

 وينطبق الأمر ذاته على الشعوب الأخرى. انظر كيف كرّم البريطانيون وينستون تشيرتشل في استفتاء القرن! فقد اختاروه كأعظم زعيم بريطاني في القرن العشرين، وما زالت تماثيله البرونزية والحجرية منتصبة عالية شامخة في الساحات العامة والحدائق، فذكرى الزعماء العظام لا تحميها قوات الأمن والشرطة والحكومات المتعاقبة، بل ذاكرة الشعوب، أو بالأحرى ذاكرة التاريخ، ومن حسن الحظ فإن ذاكرة التاريخ ليست قصيرة جداً كذاكرة الفيل، بل تحتفظ بأدق التفاصيل وبإمكانها أن تكشف حتى عن بقايا بصقة راقدة تحت حجر، فما بالك في عصر ثورة المعلومات، فقد ولىّ زمن التعتيم والتضليل والمداراة على جرائم الحكام والأنظمة، وقد أصبح من السهل جداً فضحهم على الملأ والتأريخ المباشر لفظاعاتهم وحقارتهم وسفالتهم، فشبكة المعلومات الدولية الإنترنت قد حولت كل إنسان إلى ناشر يستطيع أن يعّري أكبر الطغاة، ويشّهر بهم دون وجل. أما السماوات المفتوحة فقد جعلت الشعوب ترفع صوتها في وجه الظلم والظالمين على الهواء مباشرة. وهذا من شأنه أن يعاقب الطغاة ويفضحهم في حياتهم قبل مماتهم ويسّهل مهمة المؤرخين في المستقبل. ولا شك أن التاريخ سعيد جداً بأدواته التأريخية الجديدة ، فإلى الأمام يا تاريخ في مهامك الجليلة، وليبشر كل الطغاة بنفس المصير الذي لاقته  تماثيل الطغاة القدامى والجدد، فليس كل التماثيل جديرة بأن تنتصب في ساحات العالم وميادينه !

مقالات متعلقة

14º
سماء صافية
11:00 AM
14º
سماء صافية
02:00 PM
13º
سماء صافية
05:00 PM
9º
سماء صافية
08:00 PM
9º
سماء صافية
11:00 PM
06:12 AM
05:31 PM
2.78 km/h

حالة الطقس لمدة اسبوع في الناصرة

14º
الأحد
16º
الاثنين
15º
الثلاثاء
14º
الأربعاء
17º
الخميس
16º
الجمعة
16º
السبت
3.76
USD
4.03
EUR
4.71
GBP
217463.68
BTC
0.52
CNY