الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 10 / مايو 20:01

نحو تحرير المعلم من الموظف-بقلم: النائب مسعود غنايم

كل العرب
نُشر: 11/09/09 17:51,  حُتلن: 08:01

* من أجل مناخ معرفي تربوي صحيح يجب أن تعود الشهادة الجامعية لتصبح شهادة حياة ثقافية،
*  المعلم هو الذي يرى أن العالم أوسع بكثير من غرفة صف لها أربعة جدران. يجب إعادة اللحمة للجسد، والروح للجانب التعليمي والجانب التربوي، بعد الانفصال الذي تم ويتم بينهما

* الجامعات والمعاهد العليا لم تعد تخرّج المثقف أو الأديب والمفكر أو الإنسان العالم العارف، بل هي مراكز لتدريب الموظفين ومحطات لتأهيل الموظف قبل أن ينطلق في رحلة عذابه "السيزيفية" نحو نيل الوظيفة

في عصر انفجار المعلومات وعصر العولمة تحولت المقاييس إلى مقاييس الكم، لذلك أصبح السؤال ليس النوعية أو الكيفية وليست الكفاءات والقدرات، بل كم تسوى! بمعنى كم يسوى ما أقدمه أو ما أفعله من مال أو ربح. فنحن نلهث وراء الربح المادي في عصر الاستهلاك الإنترنتي. الجامعات والمعاهد العليا لم تعد تخرّج المثقف أو الأديب والمفكر أو الإنسان العالم العارف، بل هي مراكز لتدريب الموظفين ومحطات لتأهيل الموظف قبل أن ينطلق في رحلة عذابه "السيزيفية" نحو نيل الوظيفة، وقد تكون أي وظيفة. أما الشهادة الجامعية بدرجاتها الثلاث فهي لا تعني بالضرورة علامة أو وثيقة تبيّن بالضبط المستوى المعرفي والثقافي لصاحب الشهادة، لأن أهميتها كامنة بمقدار الكم من المعاش الذي توفره هذه الشهادة، ومسألة دلالتها المعرفية الحقيقية أصبحت هامشية لأن الأهم تأطير الشهادة في إطار خشبي جميل وتعليقها على الحائط في المكتب أو البيت كإشارة للبدء بمشوار التحصيل المادي والمالي، وكلما كانت الشهادة أعلى كان انتفاخ الجيب أكبر وامتلاء الكرش أكثر.
قد أكون مبالغا فيما وصفت أعلاه من حال الثقافة والتعليم الجامعي لدينا، ولكن في الحقيقة هناك ظاهرة خطيرة ومقلقة تهمّش الدور المعرفي والتثقيفي للتعليم الجامعي أو العالي وتختزله بالمردود المادي لهذا التعليم فقط، وهذا ليس غريبا لأننا نربي في مدارسنا وفي معاهدنا "موظف" المستقبل، وليس إنسان المستقبل واسع الآفاق، وبالتالي يصبح المعلم ابنا بارا لفلسفة تربية الموظفين. ولا غرابة أن يفقد التعليم قداسته ورسالته ليصبح وصل المعاش (תלוש משכורת) هو البداية والنهاية وهو مدار رسالة المعلم في العصر العولمي الاستهلاكي.
بسبب الكثير من الظروف العالمية والمحلية، وبسبب المفاهيم المشوهة، ونتيجة لعوامل التغيير السريعة والعنيفة التي يمر بها مجتمعنا في السنوات الأخيرة، تغيرت النظرة لمهنة التعليم. فبعد أن كان المعلم سيد الديوان، ومثقف الحارة والبلد، "والعالم" بكل أمور الدنيا، وبعد أن كان محترما، مقدّر الجانب، أصبح اليوم موضعا للطرائف أو النكت أحيانا. ومعروفة تلك النكتة التي تقول: "سأل أحدهم معلما: ماذا تعمل؟ قال: معلم. فرد عليه: الشغل مش عيب". هذه النكتة لها جذور في تراثنا وأدبنا العربي حيث ألف الجاحظ كتابا في ذم المعلمين، وهو صاحب المثل "أحمق من معلم".
هذه النظرة السلبية وغير اللائقة للمعلم يجب العمل على محوها. وعندما أقول العمل، فالأمر يتعلق بالجميع: بالمعلم نفسه، والمدرسة، والمجتمع، ولكن أيضا بالدولة والحكومة التي يجب عليها رفع أجور المعلمين ورفع مستواهم العلمي والثقافي لتصبح مهنة التدريس مهنة محترمة تجذب أفضل الكفاءات والعقول. وهذا متعلق أيضا بإيجاد مناخ تربوي وتعليمي إنساني محترم داخل المدرسة، خال من العنف وتتوفر فيه كل الوسائل والأدوات الأساسية لتقوم المدرسة والمعلم بدوره العلمي والتربوي.
في سبيل إعادة الاعتبار للمعلم، كمعلم للحياة، وتحريره من عقدة الموظف، نحن بحاجة لروح جديدة يكون عنوانها أن المعلم الناجح ليس فقط من ينجح بإيصال طلابه إلى بر الأمان واجتياز البجروت، وإنما أيضا ينظر إلى الطالب كإنسان مليء بالطاقات وهو بحاجة إلى اكتشاف، وليس الطالب شريطا أو CD يعبّأ بالمعلومات ومكدّس بالمادة التعليمية التي يسارع لسكبها في أول امتحان ومن ثم ينساها، بل هو مواطن العالم، ورجل المجتمع، الذي يجب أن نوفر له عوامل السباحة الأساسية ليبحر في هذا العالم وهذا المجتمع.
إن المعلم المعلم، هو الذي يرى أن العالم أوسع بكثير من غرفة صف لها أربعة جدران. يجب إعادة اللحمة للجسد، والروح للجانب التعليمي والجانب التربوي، بعد الانفصال الذي تم ويتم بينهما. ومن أهم مظاهر هذا الانفصال: عدم اهتمام المعلم بالجانب التربوي، واقتصار دوره على تمرير المادة المختص بها للطلاب، دون أن يتدخل بأي فعل تربوي داخل الصف، وراعيه في ذلك المثل القائل "حيّد عن ظهري بسيطة".
إن انسحاب المعلم من أداء دوره التربوي يعود للمناخ الفاسد الذي يسود المجتمع عامة، ويعود لتخلي المعلم عن رسالته لصالح "الموظف" الذي يريد قبض المعاش والعودة لبيته سالما. وبالنسبة لبعض المعلمين في هذا العصر لم يعد التعليم رسالة مقدسة، بل أصبح التعليم روتينا يوميا مضجرا وحملا ثقيلا يذهب للتخلص منه يوميا كيفما اتفق، سواء بالرجوع سريعا إلى بيته أو إلى مهنته الثانية التي يمارسها. ولأن المعظم هم أبناء بررة لعصر المادة السريع والعنيف، ومنهم المعلم، فهو لا يهتم بثقافته العامة ولا يسعى للتعمق في قضايا معرفية أو ثقافية، ويكتفي بالنزر اليسير من المعلومات التي يستقيها من الجرائد أو مواقع الشبكة العنكبوتية أو التلفزيون. أما عن المطالعة فالحديث ذو شجون ولا نريد طرق الموضوع، لأن بدايته ونهايته معروفة.
من أجل مناخ معرفي تربوي صحيح يجب أن تعود الشهادة الجامعية لتصبح شهادة حياة ثقافية، وبداية الانطلاق نحو المعرفة وطلب العلم الذي لا تحده حدود جغرافية ولا كرتونية ولا ورقية. الشهادات اليوم أصبحت أشبه بشهادات وفاة ثقافية أو شلل فكري، لأنها عند البعض تقف في تأثيرها المعرفي عند حدود الكرتون والإطار.
بدون هذه الروح الجديدة، وبدون ثورة تحرير المعلم من "الموظف"، فسوف تبقى قيمة المعلم بانخفاض، وقيمة العلم ومستوى التربية والتعليم بانخفاض، وقد نصل لدرجة عبّر عنها أحد الأدباء بقوله: "أرادت أمي أن تربيني تربية صالحة فأخرجتني من المدرسة".

مقالات متعلقة