الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 27 / أبريل 23:02

كلمة في ذكرى غياب أنطون سعادة

بقلم: جريس بولس
نُشر: 05/09/09 10:59,  حُتلن: 14:59

* أنطون سعادة أعدم قبل 60 سنة, وكان له من العمر 45 سنة, فكان في ذروة العطاء وانتهت حياته السياسية في مرحلة مبكرة من العمر
*  المشكلة هي ان كثيراً من اللبنانين لا يدينون بالولاء أو الوفاء للوطن بل للطائفة والعشيرة. فاللبنانيون لا يتصرفون كشعب وانما كقبائل
* ماذا لو أُتيح لرجل من وزن أنطون سعادة ان يحيا لجيل السبعين مثلاً؟ اية تجارب كان سيخوض في الحياة العامة, واية فرص كانت ستفتح أمامه؟

كنتُ وما زلتُ من الرافضين عقوبة الإعدام. فالقتل في نظري من الكبائر. إنه جريمة لا تغتفر. الله وحده يهب الحياة والله وحده يستردّها. القاتل مجرم وقاتل القاتل هو أيضاً قاتل.

أما القاضي الذي يصدر احكام الإعدام فليس معصوماً عن الخطأ . وفي حال شاب الحكم شائبة, فكيف يصحّح الخطأ إذا ما نُفِّذ الحكم؟ الإعدام إغتيال بقرار من المحكمة.

أنطون سعادة أعدم قبل 60 سنة, وكان له من العمر 45 سنة, فكان في ذروة العطاء. انتهت حياته السياسية في مرحلة مبكرة من العمر.

أستحضر ما كان لي من التجارب والفرص واتساءل: ماذا لو أُتيح لرجل من وزن أنطون سعادة ان يحيا لجيل السبعين مثلاً؟ اية تجارب كان سيخوض في الحياة العامة, واية فرص كانت ستفتح أمامه؟ ومن ذا الذي يجوز له ان يحرم إنساناً أو مجتمعاً من ثمرة تلك التجارب أو تلك الفرص؟ أي نتاج كان سيجود به ذلك العقل الخلاق لو قيض لصاحبه ان يعيش ثلاثين سنة إضافية ولو حبيس السجن؟ لو لم يكن حكم الاعدام الآثم، كيف كانت ستكون الطبعة الثلاثون من كتابه "نشوء الامم"؟

لو كان بيننا اليوم ماذا كان عساه سيقول في قضايا الامَّة؟ ماذا كان عساه سيقول في لبنان أو فلسطين أو العراق أو الوضع العربي العام؟

يجول بطرفه من حواليه في لبنان فيحزن لما يشهد من تدهور على كل صعيد: فساد مُسْتَشْرٍ في المجتمع والدولة، دَين عام مُتفاقم يتزايد بفعل عجزٍ مستحكم في الخزينة العامة، وبطالة مستفحلة في صفوف الشباب يقابلها حركة هجرة ناشطة للساعين وراء الرزق الحلال في شتى ارجاء العالم. وازمة لا بل ازمات سياسية متتالية حول قضايا عالقة تبدو مستعصية، وانقسامات فئوية، طائفية ومذهبية، محتدمة. وتوتُّر في العلاقة مع الشقيقة سوريا حول مسائل ما كانت لترد لو لم تكن الاجواء المشحونة على خلفيات سياسية لا مُهادنه فيها بين من يناصب عروبه لبنان العداء بافكار مسبقة، ومن يسلك طريق القوقعة بخلفيات فئويه، ومن يراهن على مواقف من قوى خارجية تجاه سوريا فيستغلها لمصلحته في لعبة التوازنات الفئوية داخل لبنان، وخلاف ذلك من القضايا.

كلها قضايا شائكة، ولكن القضية المركزية، كما كان سيراها انطون سعاده في ظننا، هي فقدان روح المواطنة. المشكلة هي ان كثيراً من اللبنانين لا يدينون بالولاء أو الوفاء للوطن بل للطائفة والعشيرة. فاللبنانيون لا يتصرفون كشعب وانما كقبائل، وقبائل العصر تسمى طوائف. فكما كان للقبيلة شيخ يتزعمها، فان لكل طائفة في لبنان زعيماً يتحدث باسمها ويتحكم بمعصبيتها وتوجهاتها.

شتان بين الدين والطائفية. فالدين رسالة تقوم على قيم سامية فتدعو إلى: المحبة والأخوَّة والرحمة والتسامح والانفتاح والامانة والاستقامة والاحسان وغير ذلك من الفضائل. هكذا فان الاديان رسالات تجمع على قيم مشتركة.

أما الطائفية فعصبية، والعصبيات تنزع إلى الغاء بعضها البعض، فتتصادم وبالتالي تفرِّق بين الفئات. أما المواطنة، التي يجب ان تجمع على الولاء للوطن، فانها تفترض نبذ عوامل التفرقة، وفي مقدِّمها الطائفية.

الكل في لبنان يلتزم اتفاق الطائف في بناء الحياة الوطنية. وهذا الاتفاق، بعد تسعة عشر عاماً من ترجمته نصوصاً دستوريه ملزمة، لم ينفَّذ بامانة، وكان اهم عناصره المهملة ذاك الذي يقضي بالعمل على تجاوز الحالة الطائفية على مراحل بمنهجية معيَّنة.

وما كان انطون سعاده ليتصور، وقد رحل بعد عام من النكبة، حجم المأساة الإنسانية التي افرزتها قضية فلسطين، وما كان ليتصور فداحة ما حل بشعب فلسطين من ظلم تحت سمع الشرعية الدولية وبصرها. وما كان ليتصور مدى ما بلغه التخلي العربي عن قضية العرب المركزية: رسمياً بتوقيع دولتين عربيتين على صلح منفرد مع اسرائيل، وبانفتاح دول اخرى على التعاطي مباشرة او مواربة مع الصهونية، وتهافت السلطة الفلسطينية، ومعها سائر دول الطوق، على اجراء محادثات مع اسرائيل توصلاً الى تسويات لا يمكن ان تكون عادلة في ظل لا تكافؤ فاضح في توازن القوى اقليمياً ودولياً لصالح اسرائيل. وما كان انطون سعاده ليتصور مدى ما بلغته الغربة المصطنعه عن قضية فلسطين حتى على الصعيد الشعبي, إما بفعل ما يتعرض له الشعب العربي من قمع وكبت على أيدي حكامه, أو بفعل تراكم الهموم المعيشية والحياتية التي صرفت الشعب العربي عن قضيته المركزية الى مواجهه مشاكله المتفاقمة. ولكن أنطون سعادة كان سيُكبِر أيضا ما سطَّره الشعب الفلسطيني العظيم من بطولات, وما سجله من صمود خارق في وجه أعْتى قوه في الشرق الأوسط ومن ورائها أعظم قوه في العالم, فضلا عما أظهره من استعداد فائق للبذل والعطاء والتضحية بلا حدود في الذود عن حقوقه الانسانية والوطنية والقومية, وهو في ذلك انما يدافع عن كرامة الامَّه ومصيرها.

وما كان أنطون سعادة ليتقبل ما يدور على الساحة العراقية من مآسٍ وفواجع إنسانية يومية في كنف الاحتلال الأميركي وبفعله. وما ينتصب من اخطارٍ تُهدد القطر العربي المحتل في وحدته وتالياً في وجوده, وما يصاحب هذه الاخطار من تداعيات محتمله تُنْذِر بأوخم العواقب على المحيط العربي برمَّته. وما كان ليصدق أن الدولة العظمى, التي تتزعم العالم وتبشِّر بالقيم الحضارية, ومنها الحرية والديموقراطية وسائر حقوق الإنسان, تتبنّى بدعة الفوضى البناءه أو ألخلاقة وتتوسَّلها الى تحقيق حلم اسرائيل في اقامة كيان يسمى الشرق الاوسط الكبير الذي يرمي الى القضاء نهائيا على فكرة العروبة وتسليط اسرائيل على المنطقة العربية باسرها, وهي, اي الدولة العظمى, لا تتورع عن هتك أبسط حقوق الانسان في أفغانستان والعراق, وفي سجن ابو غريب في بغداد ومعتقل غوانتنامو على الساحل الكوبي.

وما كان أنطون سعادة ليستوعب كيف أن العلاقة بين البلدين التوأمين, لبنان وسوريا, يمكن أن يصيبها ما أصابها من التدهور, وكيف أن المسؤولين في البلدين يتعاطون مع هذه العلاقة بإسْتِخْفاف, مطلقين الساحة مرتعاً لاصحاب المآرب في تعميق أسباب الفرقة وعزل لبنان عن محيطة العربي وخدمة مشاريع دولية تصب في مصلحة الصهيونية. وما كان أنطون سعادة ليتفهم كيف تستمر القطيعة بين الشقيقين في وقت يبدو الحل قاب قوسين أو أدنى, رهنا بخطوة تتَّخذ على مستوى القمة بدعوة المجلس الأعلى اللبناني السوري إلى إجتماع يكون على جدول اعماله بند أوْحَدْ هو جلاء العلاقة وتصحيحها.

أمام تزاحم القضايا التي تطوق المنطقةالعربية وتمزقها, وفي ذكرى غياب الرجل الكبير أنطون سعادة, لا يسعنا إلا القول: ما أحوجنا إلى قيادة قومية توحّد الامة على رؤية استراتيجية واحدة حيال القضايا التي تبعثر صفوفها وتبدد حقوقها وتهدد مصيرها, فتقود الامًّة في مسيرة نضالٍ عنيد دفاعاً عن الحق والمصير.

ولو كان أنطون سعادة بيننا اليوم لقالَ في ظنّنا بما نقوله: وهو أن لا خيار أمامنا نحن العرب إلا خوض غمار الاصلاح والتغيير على أوسع نطاق في كل مجال وعلى كل صعيد. راي اصلاح حقيقي لا بد أن يكون محوره إشاعة الحريًّة والديموقراطية من جهه, وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية من جهةٍ ثانية.

ومسار الاصلاح والتغيير لا بُدًّ أن يتوج بإقامة إتحاد عربي جامع على غرار الاتحاد الاوروبي. فلن يكون لنا نحن العرب شأن يذكر ونحن متفرقون. ولقد كان مولد الاتحاد الاوروبي بحق أعظم إنجاز إصلاحي تنموي في القرن العشرين. ونحن العرب اولى بالاتّحاد من اوروبا. ففيما اوروبا تضم مجتمعات متباينة, تتخاطب بخمسة وعشرين لساناً, وتتجاذبها ثقافات متفاوته, ويرتسم في خلفيتها تاريخ من الحروب الضارية فيما بينها, كان منها الحربان العالميتان الاولى والثانية إبَّان القرن العشرين, فإن العرب في المقابل تجمع بينهم لغة واحدة وثقافة مشتركة وتراث متداخل, ويجمع بينهم الى ذلك, كما يجمع بين الاوروبيين, مصالح متبادلة ووعي لوحدة المصير, وبخاصة في وجه مدّ العولمة الجارف. نحن أشد ما نكون اليوم حاجة الى مثل هذا التطلع الذي يقتضي بزوغ قيادة قومية تتصدر المسيرة, فانى لنا هذه القيادة؟ متى يجود الزمن على هذه الامَّة بقائد رائد يأخذ بيدها؟

رحم الله أنطون سعادة وأمثاله من الافذاذ من ابناء الامَّه الميامين, الذين قضوا قبل أن يحقّقوا طموحاتها, وطموحاتها كانت أحلامهم.

سيبقى إعدام أنطون سعادة حجَّة صارخة ضد عقوبة الإعدام, لا بل ضد القتل. 

مقالات متعلقة